الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

محمد الوادي: ثقافة أَقَلُّ.. وتفاهة أَعَمُّ

محمد الوادي: ثقافة أَقَلُّ.. وتفاهة أَعَمُّ الدكتور محمد الوادي
 أضربتُ، من زمان، عن مشاهدة التلفزيون المغربي، بعدما يئستُ من إمكانية إصلاحه وأن يصبح إعلاماً مواطناً، واستحالة رتقه لثقوب ثوبه البالي الذي لا يتغير ولا يتجدد، بل ظل مخلصاً لشعاره الدائم(قولو العام زين)، ولنمط أدائه الممل والركيك، ولجودة إنتاجه البئيس. إنها السياسة الإعلامية التي نهجتها الجهة الوصية، وعملت على تكريسها على مدى سنوات، حتى أصبحت التفاهة لازمة (لازمة.. بالمفهوم الموسيقي والشعري) لكل منتوج تلفزي.
هذه السياسة أصبحت (دستوراً) ينبغي أن يستوعبه ويتمثله كل قادم للقطب العمومي، وكل متلقي له، ومستهلك لرداءته.
     كان لي عمود أسبوعي على صفحات جريدة العلم بعنوان:"التلفزة بأسلوب آخر" من خلاله كنت أنتقد البرامج والسياسة التي كانت تتبعها دار البريهي، والقناة الثانية. كان يحركنا وازع الثقافة، والحلم بمغرب آخر.. مغرب العِلم والمعرفة. كنا نشعر، كإعلاميين وكمثقفين، أننا في الجبهة..
في الصف الأمامي للمعركة لمحاربة التفاهة، والتخلف، وكل أشكال الفساد. كنا نحلم بخلق وإنتاج إعلام مغاير، لأننا كنا قد تشبعنا بالمرجعيات الفكرية والفلسفية، وربينا ذوقاً راقياً يشمئز من كل ضحل ومبتدل، كنا نستلهم مقولة الإعلامي والسفير والوزير السابق، رحمه الله، محمد العربي المساري( الإعلام هو القاطرة التي تجر كل عربات التغيير). مات المساري وفي نفسه شيء من إعلام حر ونزيه.. إعلام مؤثر ومُغيِّر .. مات المساري الذي كان يفتخر كونه صحافياً، ويعتبر كل المناصب الأخرى التي تقلدها ونجح فيها مجرد مسؤوليات.. مات ولم يتحقق حلمه، بل على العكس من ذلك، وللأسف الشديد،أصبح إعلامنا هو القاطرة التي تجر كل عربات التخلف. من بداية التسعينات إلى الآن لا شيء تغير.. لا تزال دار لقمان على حالها، بل وصل المشهد الإعلامي المغربي إلى حالة من الإفلاس والتردي.
وأذكر أنني، قبل سنوات، كنت أحد أعضاء لجنة القراءة والتقييم بالقناة الأولى وتمكنت من الاطلاع على سياسة الدار والطريقة التي يفكر بها قياصرتها، وتأكد لي أن تغيير السياسة الإعلامية بالمغرب لن يتم إلا بقرارات سياسية عليا شجاعة ومؤلمة للبعض، لأن معسكر التفاهة والمصالح الخاصة هو الأقوى، وله من الدعم والمساندة، والقواعد الخلفية ما يجعله الفائز في كل منازلة، ولكن بالرغم من عدم التكافؤ في الإمكانيات استطاع معسكر الثقافة الصمود والبقاء على جاهزيته، وإن بالنقد.
الآن يظهر أن جل المثقفين والإعلاميين الوطنيين والذين لهم غيرة على المجال والبلاد سكنوا واستكانوا ورضوا بما هو كائن، ولم يعد حلمهم هو ما يجب أن يكون. لقد تخلوا عن مقاعدهم للتافهين وسلموا بالأمر الواقع، بل منهم من انخرط بالكامل في صفوف معسكر التافهين، وقلصوا، بل محوا المسافة الشاسعة بين الثقافة والتفاهة. أصبحنا في سلة واحدة.. أشباه المثقفين سيطروا بالكامل على كل المؤسسات. أصوات قليلة هي التي لا تزال تغرد خارج السرب، وتبدو غريبة واستثنائية ونشازاً.
في العديد من مواقع المسؤولية الإدارية، وفي منابر شتى، كما في لقاءات ومهرجانات وبرامج،... جهلة ومتطفلون ومرتزقة لا علاقة لهم بالفعل الثقافي، ومع ذلك يصُولون ويجُولون، ويصرفون من المال العام حسب أهوائهم. لهم فقط مؤهلات "السنطيحة وتخراج العينين والكذب والنميمة...". إنها العربدة الثقافية والإعلامية والفنية التي لو كتبنا عنها مجلدات ومصنفات لما حصرنا عدد الدجالين الذين استولوا على الشأن الثقافي والفني ببلادنا وأفرغوه من محتواه. كيف لمن لم يكتب سطراً واحداً في حياته، ولم يبدع ولو مرة واحدة، ولم يتكون أكاديمياً، ولم يجالس أهل العلم والأدب والفن أن يدبِّر  الشأن الثقافي؟ بل والأدهى من كل هذا أصبح التافهون يشترون ورقات (دكتوراه فخرية) من جمعيات مغمورة وهم لا يستقيم لهم حرف، وبوقاحة، وفي غياب  تشريعات قانونية ينتحلون صفة دكتور/ ة، أمام مسمع ومرأى الجهات الوصية: وزارة التربية الوطنية، وزارة العدل، وزارة الداخلية، وزارة الثقافة. أصبح عندنا كل أنواع الدجل والنصب والتزوير والانتحار. بدأت القصة حين تم حجب مادة الفلسفة من المناهج الدراسية، وبدأ التضييق على النخبة المتنورة، ولكي تكتمل اللعبة كان لا بد من إعلام هجين يعيد تشكيل الرأي العام، والذوق العام بناء على معايير التفاهة، وبما أننا نعيش عصر الصورة كانت الوسيلة الأنجح هي التلفزيون. اقتضت الخطة اللجوء إلى "خوردة"  الأفلام والمسلسلات والسلسلات المكسيكية والتركية ودبلجتها وتقديمها للمتلقي المغربي في كل الوجبات إلى درجة التخمة، والعمل على الاستغناء عن المنتوج الفني المغربي بدعوى أنه مكلف، وتنافست القناة الأولى والثانية في تضييع المشاهد المغربي وانضافت إلى الحلقة الإذاعات الجهوية والمحلية بالبرامج التهريجية. مع الأيام، والانفتاح على كل ما هو غربي من موضة وبرامج الأحلام المستحيلة بدأت شرائح اجتماعية جديدة تتشكل، وأصبح الهم الوحيد للفرد أن يصبح كما نجوم الشاشة.. يعيش كما يعيشون، ويلبس كما يلبسون، ويأكل ويشرب كما يفعلون، لكنه كان محاصراً  بالجهل والأمية والبؤس الاجتماعي،  فوقع الشرخ.. الفرق الشاسع بين حياة الرفاهية كما يقدمها التلفزيون، والواقع الاجتماعي البئيس كما هو معطى. لقد استبدلنا الثقافة الوطنية الأصيلة والمتأصلة بثقافة تحكمها أخلاق غير أخلاقنا، وظروف غير ظروفنا، وياليتنا كنا أخذنا من الثقافة الغربية صورتها المشرقة، وإنتاجها الراقي، بل ياليتنا سرنا على نفس الطريق الذي كنا بدأناه في السبعينات وبداية الثمانينات، حيث كنا نستمتع بالبرامج والأفلام والمسلسلات اللبنانية الهادفة والتي تنم عن حس فني وجمالي، وذوقك رفيع، وثقافة هادفة بحمولة فكرية ترفع من مستوى المتلقي. 
.
وحتى يبدو النهج الإعلامي الضحل الجديد صحيحاً، والاختيار العشوائي موفقاً كان على أباطرة الإعلام والجهات التي تقف خلفهم خلق نماذج من الفاشلين والمعتوهين والمعوقين ذهنياً(لا أقصد الإعاقة الجسدية) وتقديمهم للمجتمع على أساس أنهم النجوم والنماذج التي يجب أن يقتدى بها، وذلك على حساب النماذج الحقيقية والكفاءات والرموز الوطنية. هكذا توارى، قصداً وقسراً، عن المشهد الإعلامي كل من يحمل فكراً منتوراً، أو فناً ملتزماً جمالياً. أصبح من المستحيل، إلا فيما ندر، مشاهدة مفكر، أو أديب، أو فنان حقيقي، أو عالِم،  في برنامج من البرامج المتلفزة.
     
من مكّن التافهين من السيطرة على وسائل الإعلام، ومراكز القرار في الدولة، وجمعيات المجتمع المدني والمؤسسات والهيئات الحكومية وغير الحكومية؟؟؟؟ من يشجع ويدعم السلوكات الشادة ؟ من يعمل على قتل الثقافة بأدوات التفاهة؟ من يجعل من التافهين نجوماً ثقافية وفنية واجتماعية وحتى عِلمية؟ 
أسئلة كثيرة تطرح، والأجوبة معلومة وإن كان الفاعلون يتسترون، من وراء حجاب، بشكل مبطن وبأقنعة سميكة، وأحياناً يتعرون وتتكَشّف وجوههم البشعة من غير استحياء أو خجل. العديد من الدول والأمم اختارت التدرج في السلم من الأسفل إلى الأعلى، ليكون الصعود طبيعياً، ونحن قلبنا السلم فنزلنا إلى الحضيض.