الثلاثاء 16 إبريل 2024
منبر أنفاس

عبدالله أطويل: جنازة حزب

عبدالله أطويل: جنازة حزب عبدالله أطويل
بلغ إلى علمنا وترامى إلى مسامعنا ما ترامى، ونحن معشر جيل مواليد بداية التسعينيات، عَلِمنا نبأً عن حزبٍ يحسب له ألف حساب، وقيل إنه تعقَّق وتدلَّل تحت مظلة لفيفٍ من العازِفين على سمفونية النضال والمُطَبِّلِّين على دف المبادئ اليسارية والمزَمِّرين بمزامير الفكر التقدمي التحرري، كيان ارتوى بدماء الشهداء في عهد أتقن الحاكمون فيه التحدث ،بفصاحة منقطعة النظير، بلغة القمع بكل أشكاله والتنكيل بشتى تلويناته، والويل كل الويل إذاك لمن يقول لا.
بقليل من البحث والنبش، ونحن ننفض الغبار عن أوراق الحزب، علمنا أن الحزب نفسه يسمى بحزب المهدي وعمر، تكريما لروحي المهدي بنبركة، وعمر بنجلون شهيدي الحزب البارزيْنِ، إلى جانب كوكبة من الشهداء الذين غادر بعضهم الحياة تحت سوط الجلاد في فترة سوداء، ثم جاء بعدهم من جعل المهدي وعمر وباقي الشهداء يتقلبون في قبورهم ذات اليمين وذات الشمال، وهم يتابعون الفضيحة تلو الأخرى من ساسة توشحوا بوشاح حزبٍ، وانتهكوا حرمته، ودنسوا ماضيه.
أما عبدالرحمن اليوسفي ومن بقي معه، فلا يسعه بمعيتهم إلا أن يضرب الأخماس في الأسداس ذهولا أو حسرة، بعد أن أحياه القدر ليرى، لا ليحكى له فقط، بنود مشروع القانون 20-22 ومواده، منتوج خالص، بل علامة مسجلة ومحفظة باسم حزبه، إذ إن هذا القانون من تدبيج وزير ينتمي لحزب حمل شعارات تقدمية، وناضل متطلعا لحرية التعبير في زمن مغرب الجمر والرصاص، فما على لسان حال اليوسفي ومن معه سوى ترديد ما قاله الشاعر متحسرا على سقوط الأندلس:
لِـكُلِّ شَـيءٍ إِذا مـا تَمّ نُقصانُ..... فَـلا يُـغَرَّ بِـطيبِ العَيشِ إِنسانُ
هِـيَ الأُمُـورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ.... مَـن سَـرّهُ زَمَـن سـاءَتهُ أَزمانُ.
ها هو ذا، اليوم حزب باسمه ووردته متورط منتهى التورط في جريمة شنعاء، بل مجزرة في حق حرية التعبير يندى لها الجبين، لكن المتأمل في حزب القوات الشعبية، الذي لم تعد تربطه بالشعبية غير الاسم، ولا بمبادئ الاشتراكية وآمال طبقة البروليتاريا سوى مذكرات ترمدت، لشخوص جلهم راقدون في القبور، ومنهم من سئم التقلب في برزخه حسرة على حزب خلع زيه وتوشح بثوب مترهل، متهافتا هرولة وجريا سعيا إلى منصب أو منصبين، فارا مستنفرا متنصلا من مبادئ شهدائه، حين كان حزبا يصلي على قبلته التقدميون ويسبح بحمده اليساريون ويستهوي المعلمين، ويلتف حوله المقهورون غزلا وأُنسا، وحين كان ملاذ الشرفاء وصوت المضطهدين.
وزير العدل وإن كان يقينا، هو من دبج بنود قانون تكميم الأفواه، فإنه يكون قد حَوَّل الحزب إلى ناطق غير رسمي باسم ضمير متخفي تقديره هم، وبعده قام باجتثاث الوردة الذابلة من جذورها، بعد ما تعرضت له من تقليم سبلاتها وقضم بتلاتها وتساقط أوراقها تباعا، بمواقف ليس لها من نعت أبلغ من أن تنعت بالفضائح والمهازل.
صحيح، بل يقين أن الحزب تلقى في السنوات الأخيرة صفعات متتالية، وتعرض لجروح بليغة لم يكن يبرأ من إحداها حتى تصيبه أخرى أشد وأبلغ، لكن رصاصة الرحمة خرجت مصوبة من وزير العدل بفعلته الشنعاء هذه، وصنيعه السيئ الذكر، ليطرح معها الحزب صريعا لافظا أنفاسه، بل جثة هامدة لا روح فيها، وسواء أمر بتأجيل عرض القانون على لجنة النقاش أولم يأمر بذلك، وسواء أطلب تعديل القانون اللقيط، أو سحبه نهائيا، فإن الرصاصة قد خرجت، ولن يمسح عارها أي تصرف أو سلوك، والأمر نفسه يسري على باقي أحزاب الأغلبية التي أطلت علينا ببلاغات ركيكة وتصريحات إنشائية، في محاولة لغسل أيديها من وحل الفضيحة، متبرئة من قانون تمت المصادقة عليه في مجلس حكومي.
في الأنظمة الديمقراطية والحكومات التي تحترم نفسها قبل مواطنيها، وفي مثل هذه الفضائح يسارع الوزير المسؤول إلى تقديم استقالته من منصبه، لحاجة في نفسه إن كان تكنوقراطا، ولغاية في روح الحزب إن كان متحزبا، حفظا لماء وجه الحزب أمام عامة الناس وخاصتهم، ولعل أبرز مثال هي نازلة تقديم وزيرة العدل الفرنسية وحافظة الأختام سابقاً كريستان توبيرا استقالتها إلى رئيس الجمهورية آنذاك فرانسوا هولاند، ساعات قبيل مناقشة الحكومة لمشروع قانون يجرد كل مزدوج الجنسية من جنسيته الفرنسية من المتورطين في أحداث إرهابية. وبررت الاستقالة حينها، بأن بنود المشروع لا تتماشى ومبادئها الأخلاقية والسياسية، لتخرج من الوزارة بدراجتها الهوائية مرفوعة الهامة، لكن شتان بين وزير العدل ووزيرة العدل، فإن فرقهم لسان لغة المقال فقط بتاء التأنيث، فلسان الحال يظهر بالفصاحة من الفروق والشروخ المشروخة ما يظهر. ولسان الحال أفصح من لسان المقال كما قال المثل العربي.
بهذا القانون السيء الذكر يكون هذا الفاعل، أو المأمور بالفعل، قد دق آخر مسمار في نعش الحزب، لينثر الخبر نعيا لجمهور كان يسمع أنين مرحوم توسَّم قيد حياته بالقوات الشعبية، ولم يبق لنا إلا أن نشيعه بكل عبارات العزاء، ونوجه أسمى وأبهى برقيات الرثاء لليوسفي والكحص والباقون، ومن لف لفهم، وكل من هو بيننا الآن حي يرزق، يسمع ويرى، ونهنئ المهدي وعمر، ومن رافقهما من الراحلين تحت الثرى، فطوبى لهما بغيابهم عن عد التعداد العكسي لنضال صار نسيا منسيا.
 
عبدالله أطويل، أستاذ مادة علوم الحياة والأرض