الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

د. تدمري عبد الوهاب: حظر التنقل ليلا ببن المقاربة الصحية والمقاربة الأمنية

د. تدمري عبد الوهاب: حظر التنقل ليلا ببن المقاربة الصحية والمقاربة الأمنية د. تدمري عبد الوهاب

في الوقت الذي تتجه فيه دول العالم الى التخفيف من إجراءات حالة الطوارئ الصحية، بعد أن تبين محدودية هذه الإجراءات في القضاء على هذه الجائحة رغم أهميتها في التخفيف من وتيرة انتشارها، لكن دون أن ترقى الى مستوى اعتبارها وسيلة فعالة للحد منها، وذلك حسب ما أظهره تطور هذه الجائحة التي أبانت عن قدرتها في اختراق كل هذه الإجراءات. بل وبدأ العالم يستعد للتعايش معها، والرهان على ما يمكن أن تحدثه من مناعة جماعية، وذلك في انتظار إيجاد علاجات ولقاحات فعالة لها، التي يبدو أنها لا زالت بعيدة نسبيا. وكذا بعد أن تبين أن هذه الاجراءات والاستمرار فيها سيحدث في المقابل انعكاسات اقتصادية واجتماعية قد تعصف بالاقتصاديات العالمية، خاصة مع الركود الذي كانت تعيشه هذه الأخيرة حتى قبل ظهور هذه الجائحة، مع كل ما يمكن أن يترتب عن هذا الوضع من انهيار للنظام الاقتصادي العالمي بالشكل الذي هو متعارف عليه حاليا.

 

وفي الوقت الذي تعمل فيه دول العالم، بما فيها تلك التي لحقت بها أضرارا صحية واقتصادية كبيرة على استرجاع أنفاسها عبر عقلنة هذه الإجراءات بما يتماشى والحفاظ على دورة الحياة الاجتماعية والاقتصادية كعملية تمهيدية لتقبل التعايش مع هذه الجائحة، التي يبدو حسب الكثير من الدراسات العلمية الحالية أنها ستبقى، ولو بطريقة دورية، تعرف المد والجزر، حسب الفصول. نجد أن المغرب لا زال مستمرا في التشديد من هذه الاجراءات، لينتقل من مرحلة الطوارئ الصحية إلى مرحلة حظر التجوال ليلا مع دخول شهر رمضان، وذلك في سابقة قل نظيرها في العالم، رغم أن هذا الأخير يمكن اعتباره بعيدا كل البعد عن حالة الخطر التي تشهدها الكثير من الدول، وذلك حسب ما يصرح به من أرقام تعد مطمئنة تراوح 4000 إصابة إلى حدود يوم السبت 25 أبريل 2020، وذلك بعد مرور ما يقارب شهرين من ظهور أول إصابة بهذا الوباء. بالتالي لم يكن هناك من دواع لكل هذا التشديد في الإجراءات التي تعني المزيد من التداعيات الاقتصادية والاجتماعية، التي ستؤثر سلبا على الأمن الاجتماعي والمعيشي للمواطنين، وستفاقم من عجز الدولة في تلبية احتياجاتهم رغم نظام القفة والمساعدات الاجتماعية، ورغم القرض الأخير الذي يكفي فقط لسد خصاص أجور الموظفين ولتغطية النقص الكبير الحاصل من إنتاج الحبوب نتيجة الجفاف الذي أعلنت عنه وزارة الفلاحة لهذا الموسم.

 

إن هذا التوجه الحالي للدولة المغربية القاضي بتشديد هذه الاجراءات ليلا في شهر رمضان ،وعلى خلاف جل دول العالم، يستدعي منا أكثر من تساؤل:

هل هي فعلا راجعة الى تفاقم خطير لوضعنا الوبائي تعلمه الدولة ويجهله الشعب، وفي هذه الحالة يصبح كل ما يصرح به من أرقام وبيانات هي فقط للتطمين رغم كل ما تبطنه من تحقير وانتقاص لذكاء المغاربة؟ وإن كان كذلك، فهل لهذا التشديد في الاجراءات ما يبرره من الناحية العلمية والاقتصادية والاجتماعية؟ أم أنها إجراءات أمنية مغلفة بحالة الطوارئ الصحية للإجابة على وضع أمني معين تعلمه الدولة ويغفله المجتمع؟ وحتى في هذه الحالة هل فعلا أدركت الدولة عواقب هذه الإجراءات على الأمن والسلم الاجتماعي؟ وهل فعلا يمكن أن نعتبر أن مثل هذه الاجراءات ذات الصبغة الأمنية ستكون فعالة لدرء المخاطر الاجتماعية والاقتصادية؟ أم أنها، حتى وإن نجحت مؤقتا ونسبيا خلال هذا الشهر، إلا أنها ستزيد من تعاظمها؟

 

إن الاجابة عن هذه الأسئلة يستدعي بالضرورة التوقف عند الوضع الوبائي في المغرب، وفي مدى فعالية حالة الطوارئ الصحية ليس فقط بالنسبة للمغرب، بل للكثير من دول العالم التي اعتمدتها، والى أي حد يمكن اعتبارها حلا لمواجهة هذه الجائحة .

في هذا الإطار علينا استحضار ما تقوم به هذه الدول حاليا من مراجعة لهذه الاجراءات والتخفيف منها، بعد أن أثبتت عدم نجاعتها في القضاء على الوباء. وبعد أن تبين حجم الأضرار الاقتصادية والاجتماعية المترتبة عنها.

 

وإذا اعتبرنا أن الوضع الوبائي في المغرب لا يدعو للقلق، حسب البيانات المقدمة التي لا يمكن إيعازها حصرا لهذه الإجراءات الاحترازية التي تم اتخاذها، لكون نفس الإجراءات اتخذتها دول أخرى في الجوار الأوروبي، وعلى الرغم من ذلك فهي تشهد وضعية وبائية متفاقمة. بل يمكن إيعازها لأسباب أخرى تشكل سمة مشتركة لمجموع القارة الافريقية التي لم يتجاوز فيها عدد الاصابات إلى حدود يوم السبت 25 أبريل 2020 ما مجموعه 30000 إصابة أي بنسبة 1.07% من أصل 2800000 إصابة على المستوى العالمي، وعدد الوفيات في حدود 1400، وهذا ما ذهبت إليه بعض الدراسات الأمريكية مؤخرا حين ربطت انتشاره السريع بعوامل مرتبطة بالحرار والرطوبة. وفي هذا السياق أستحضر ما كتبته في مقال سابق بتاريخ، عندما قلت إن هذا الانخفاض في أعداد الإصابات يمكن إرجاعه كذلك لأسباب أخرى، إما مرتبطة بضعف الإمكانيات وقلة الفحوصات التي لم تتجاوز في المجموع 415000، حسب ما صرح به المسؤول عن مراكز الأمراض والوقاية منها بالقارة الافريقية، أو أنها مرتبطة بالمناعة التي اكتسبتها فئات واسعة من المجتمعات الافريقية، حيث تنتشر أوبئة أخرى كداء السل والملاريا التي يمكن تتضاعف أعداد وفياتها هذه السنة لتصل إلى أكثر من 770000 حسب تقديرات منظمة الصحة العالمية، أي ضعف أعداد الوفيات لسنة 2018.

 

لكن في كلتا الحالتين سواء اعتبرنا أن هذه الارقام والبيانات المقدمة تعكس فعلا واقعنا الوبائي علاقة بخصوصياتنا الافريقية. أو سواء اعتبرناها عكس ذلك تماما علاقة بضعف وقلة الامكانيات المسخرة للتشخيص والفحوصات التي تشكل السمة المشتركة للدول الافريقية؛ فإن التشديد من هذه الإجراءات هو خيار يسير عكس الاتجاه العام الذي تتجه إليه الكثير من دول العالم، خاصة إذا ما علمنا أن جل الدراسات حاليا تؤكد على ضرورة التعايش مع هذا الوباء الى حين إيجاد لقاحات وعلاجات فعالة له، والتعويل على المناعة الجماعية لمقاومته. وكذا ما تطرحه بعض هذه الدراسات من إمكانية عودة الوباء في الخريف أو الشتاء القادمين، وهو ما يدفع الى التخفيف من هذه الاجراءات ويفقد جدوى الاستمرار في حالة الإغلاق العام التي لا يمكن أن تشكل حلا دائما، نظرا للتداعيات الاقتصادية والاجتماعية الكارثية على الاقتصاد العالمي والأمن المعيشي للمواطنين. وهو ما حذا بالكثير من الدول، بما فيها تلك المحسوبة على العالم المتقدم الى الرفع المتدرج لهذه الإجراءات، أو التخفيف منها من أجل استعادة دورة الانتاج والحياة الاجتماعية العامة ولو بشكل مقيد. لكن في حالتنا الوطنية وعلى الرغم من البيانات والأرقام المطمئنة لحد الساعة، وبغض النظر عن صحتها من عدمه، نجد أن الدولة تسير في اتجاه تشديد هذه الاجراءات، لتضيف حظر التنقل ليلا مع بداية شهر رمضان، وذلك عكس ما تتجه اليه الكثير من دول العالم. هذا في الوقت الذي نعلم فيه أن هذه الاجراءات هي فقط مساعدة للتقليل من سرعة انتشار الوباء وليست علاجا له وان العالم يستعد للتعايش معه، وفي الوقت الذي نعلم فيه ايضا ان اقتصادنا الوطني يشهد وضعية كارثية بفعل العجز الحاصل في الميزان التجاري، وتدني نسبة النمو التي ستقل عن 2.9% التي كانت عليها سنة 2018؛ والارتفاع الكبير للمديونية الخارجية التي تشكل ما يقارب 100% من الدخل الوطني الخام، هذا دون احتساب المديونية الداخلية. وإن هذه الوضعية الاقتصادية ستزيد من مستويات الفقر والبطالة لدى غالبية الشعب المغربي، وهو ما سيرفع من حدة الاحتقان الاجتماعي بالشكل الذي سيهدد فيه مباشرة الأمن والسلم الاجتماعين، ولن تفيد في ذلك بعض المساعدات الاجتماعية الهزيلة.

 

إن المغرب إذن، وبشكل عام، بتشديده لهذه الاجراءات بدل التخفيف منها والعمل على عقلنتها من أجل العودة المتدرجة الى حياة عادية مقيدة نسبيا، وذلك عكس الاتجاه العام الذي تسير فيه جل دول العالم حاليا، فإنه يسير في الاتجاه الخطأ. وعواقب هذه الاختيارات الأخيرة غير محسوبة إذا ما وضعناها في ميزان الربح والخسارة، وقد تؤدي إلى ما لا يحمد عقباه رغم ما يظهره المجتمع من انضباط نسبي لحد الساعة لهذه الاجراءات. اللهم إذا كان المقصود منها هو الاستمرار في خلق حالة الإجماع الوطني، وبالتالي يكون الاستمرار فيها على عكس دول العالم، الغاية منها هو الضبط الأمني، بدل الضبط الصحي، وهي الفرضية التي تعززها الإجراءات الأخيرة القاضية بحظر التنقل ليلا خلال شهر رمضان، التي ليس لها ما يبررها من الناحية العملية والاجتماعية ما دامت المحلات التجارية والمقاهي ستستمر في الاغلاق وفق اجراءات حالة الطوارئ الصحية المعلنة سابقا، وبالتالي ليس هناك داع لخروج المواطنين بشكل جماعي. اللهم إذا كانت هناك معطيات تعلمها المؤسسات الأمنية تستدعي التخوف من الجماعات الأصولية التي قد تعمل على استغلال شهر رمضان، خاصة أوقات صلات التراويح للتعبير عن غضبها من الإغلاق الذي طال المساجد والجوامع، وبالتالي خرقا جماعيا لحالة الطوارئ الصحية.

 

لكن حتى في هذه الحالة، هل كان بالضرورة إثارة الانتباه بهذا الشكل من الإجراءات، أم كان فقط يستلزم تطبيق القانون على المخالفين لها دون أن يتحول ذلك إلى عقاب جماعي يمكن أن يثير حفيظة المواطنين العاديين، ويزيد من منسوب التضامن والتعاطف مع هذه الجماعات الدينية المتطرفة .

 

في كل الأحوال، وإن كان التخوف من هذه الجماعات الدينية المتطرفة هو من استدعى الإعلان عن هذه الإجراءات الاخيرة، فإن هذه المقاربة الأمنية مآلها الفشل حتى وإن حدت مؤقتا من خروج هذه الجماعات؛ لأن خطرها سيزداد مستقبلا بازدياد التعاطف معها، وإن المقاربة الامثل لاجتثاثها تكمن في:

- القضاء على البيئة الاجتماعية الحاضنة لها، وذلك عبر اعتماد سياسة اجتماعية واقتصادية تنموية تروم القضاء على الفقر والهشاشة .

- سن برامج تعليمية تشع الفكر النقدي والتنويري وتقطع مع الفكر الخرافي والسلفي.

- تجفيف المنابع المالية لهذه الجماعات وإخضاع مؤسساتها المالية الجمعوية والخيرية للفحص المالي الدقيق.

- تحرير مؤسسات الحقل الديني ابتداء من أئمة المساجد وانتهاء بالمجالس العلمية، من تحكم هذه الجماعات المتطرفة، وإخراج برامج محو الأمية من الفضاءات الدينية ومن دور العبادة وتعيين أطقم تعليمية مهنية تلتزم بالأهداف المتوخاة من هذه العملية.

- تحرير الفضاء الإعلامي السمعي والبصري من الفكر التكفيري المعادي للديموقراطية والحداثة.

 

إنها جملة من الإجراءات التي تعد ضرورية للحد من توغل الإسلام السياسي بمختلف مجموعاته في بنياتنا الاجتماعية والدولتية. أما المقاربة الأمنية الحالبة في التعاطي مع هذه الظاهرة المرضية التي تهدد مجتمعنا وقيمنا الروحية والدينية، فهي شأنها شان الكثير من المقاربات الاخرى، لا تعدو أن تكون ظرفية وتنم عن تدبير ظرفي يفتقد لرأيا استراتيجية في تدبير قضايا الشأن العام الوطني، بما فيها طريقة التعامل مع هذه الجائحة، وذلك بما يحافظ على أمننا الصحي من جهة، ويعمل على استعادة دورة الإنتاج والعودة إلى حياة اجتماعية عادية مقيدة نسبيا من جهة أخرى.