الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

عبد العالي بنلياس: تداعيات الأزمة الصحية العالمية على العولمة

عبد العالي بنلياس: تداعيات الأزمة الصحية العالمية على العولمة عبد العالي بنلياس

إن الأزمة الصحية العالمية التي ألمت بالعالم وبكل الدول والشعوب بسبب انتشار وباء كورونا، ليست بالأزمة الصحية المحدودة من حيث الزمان والمكان والنتائج والآثار، ولكن هي أزمة متعددة النتائج على مختلف المستويات، ولها ارتدادات على مستوى العلاقات الدولية، وعلى مكونات النظام الدولي الذي عرف في العقدين الآخرين نوعا من إعادة توزيع مواقع القوة بين اللاعبين الكبار على الساحة الدولية، بفعل تصاعد قوة الصين الاقتصادية وبعض دول آسيا، أمام تراجع قوة الاتحاد الأوربي وبروز مؤشرات خطف القيادة الاقتصادية من يد الولايات المتحدة الأمريكية.

 

فإذا كانت نهاية الحرب الباردة قد أدت إلى نهاية القطبية الثنائية وتربع الولايات المتحدة الأمريكية على قيادة العالم، وما تبع ذلك من إعلان انتصار الإيديولوجية الليبرالية وظهور نظرية نهاية التاريخ للمفكر الأمريكي فرنسيس فوكوياما، وانطلاق العولمة بكل مظاهرها وأبعادها السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والثقافية. فإن تفشي فيروس كورونا  الذي ولد من رحم العولمة، والتي سرعت من خطوات انتشاره، أصبح يسائل هذه العولمة حول أهميتها والفاعلين فيها ومستقبلها.

 

هذه العولمة التي حولت العالم إلى سوق واحدة يخضع للمنافسة الشرسة بين كبريات شركات الإنتاج والتوزيع والتسويق، وخلقت سلاسل عابرة للحدود والقارات تمتلك القدرة على توريد الخدمات في كل نقطة في العالم، وأدت بالنتيجة إلى تشبيك العلاقات الاقتصادية والتجارية الدولية ، وإلى تجدر الاعتماد المتبادل بين الدول في توفير  حاجياتها المختلفة من أبسطها إلى أهمها. والتي اعتبرها توماس فريدمان في مقال له في جريدة نيويورك تايمز أن كوكبنا اليوم ليس مترابطًا فقط بل وينصهر في نواح كثيرة.

 

وقد اعتبر مركز المستقبل والدراسات والأبحاث التقدمية، أن العولمة تسببت في خلق نظام معقد من الاعتماد المتبادل، إذ احتضنت الشركات سلاسل التوريد العالمية، مما أدى إلى ظهور سلسلة معقدة من شبكات الإنتاج التي ربطت الاقتصاديات العالمية، فأصبح تصنيع مكونات منتج واحد في عشرات الدول. وقد تسبب هذا التوجه العالمي نحو التخصص -في بعض الأحيان- في صعوبة إيجاد بدائل لبعض المكونات، خاصة بالنسبة للمنتجات غير العادية أو التي تحاج إلى مهارات معينة.

 

وباء كوفيد 19 والعولمة

في غفلة من حكومات الدول الكبرى وأجهزها التي تتابع أدق التفاصيل وتطورها، ومراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية التي تدرس مختلف الظواهر  وتتنبأ بتطورها، ومنظمة الصحة العالمية المنسقة لأنشطة مكافحة الأمراض والأوبئة، وفي غفلة من الشركات العابرة للقارات، وفي غفلة من الجميع، سوف يتوقف الذم الذي يسري في شرايين العولمة، بتوقف انتقال الأشخاص والسلع، بإغلاق الدول لحدودها وفرض الحجر المنزلي على ساكنتها وتوقيف أنشطنها التجارية والاقتصادية والصناعية، وأصبحت العولمة تعيش أصعب لحظاتها التي تتجاوز بكثير الأزمة المالية التي ضربت العالم بسبب انهيار النظام المصرفي في قلب الدولة الليبرالية.

 

وبدا النظام الدولي بالشكل الذي يوجد عليه اليوم عاجزا عن إيجاد أجوبة سياسية للتحديات التي تواجه المجتمع الدولي، سواء بالنسبة لمنظمة الأمم المتحدة التي ظلت تتابع التطورات التي يعرفها الوباء على مستوى العالم، بحيث لم تعقد الجمعية العامة للأمم المتحدة ولا مجلس الأمن أي اجتماع عاجل لمناقشة الموضوع واتخاذ التدابير والقرارات التي تفرضها المرحلة، ولا المنظمات الإقليمية حيث كلها ظلت معطة، بل حتى الاتحاد الأوروبي كإطار للتضامن والتعاون بين الدول الأعضاء، وصف من طرف الرئيس الصربي بأن التضامن الأوروبي غير موجود وكان حبرا على ورق، وقد اعتبرت نائبة رئيس معهد جاك دولور أن الاتحاد الأوروبي أظهر عدم جاهزيته وعجزه وجبنه، فضلا عن تردده بشكل صارخ.

 

النقاش المطروح اليوم ليس حول مستقبل العولمة التي أصبحت جزء لا يتجزأ من النظام الدولي واستقراره، والتي تم بناؤها بعدد كبير من الاتفاقيات التجارية الدولية ووفر الآلية المؤسساتية لتدبيرها من خلال إنشاء منظمة التجارة العالمية، بل النقاش يتركز حول من سوف يقود هذه العولمة في العقود المقبلة من القرن الواجد والعشرين، وما إذا كانت اللبيرالية الجديدة قد استنفذت قوتها مع توالي الأزمات المختلفة التي يعرفها المجتمع الدولي والتي أصبحت تهدد الأمن والسلم الدوليين، سواء الأزمات السياسية والأمنية أو الأزمات الناتجة عن السياسة الدولية التي تتبعها الدول الكبرى في التعاطي ومعالجة مختلف النزاعات، أو التهديدات العابرة للحدود كالإرهاب الدولي والهجرة غير الشرعية، أو الكيفية التي تتعاطى معه الدول الصناعية مع موضوع تغير المناخ.

 

وباء كورونا والصراع الجيو-استراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين

لن تغير جائحة كورونا الأسس الاقتصادية للنظام العالمي القائم على العولمة، بل أن هذه الأزمة الصحية المعولمة سوف تؤدي إلى بداية تغيير في الجغرافية السياسية للعالم، من عولمة تقودها وتتزعمها الولايات المتحدة الأمريكية والتي تعمل جاهدة على الاستمرار فيها من خلال تنشيط عدد من المجموعات الاقتصادية، كالمجموعة الاقتصادية للدول السبع في العالم التي دعت في اجتماعها الأخير إلى ضرورة اتخاذ كل التدابير اللازمة لضمان استجابة عالمية قوية ومنسقة للأزمة الصحية التي سببها وباء فيروس كورونا، والكارثة الإنسانية والاقتصادية المتنامية الناجمة عنه، ومراجعة شاملة وإصلاحات عميقة لمنظمة الصحة العالمية. ومجموعة الدول العشرين التي التزمت بضخ خمس تريليون دولار في الاقتصاد العالمي، وذلك كجزء من السياسات المالية والتدابير الاقتصادية وخطط الضمان المستهدفة لمواجهة الآثار الاجتماعية والاقتصادية والمالية للجائحة. إلى عولمة تتمحور حول الصين الشعبية، التي كانت قد بدأت بشكل مبكر في تحضير وتقديم نفسها على أنها قادرة على القيادة، من خلال ربط الجسور الاقتصادية والسياسية مع مختلف الدول وبناء عدد من المحاور الاقتصادية، كمنتدى التعاون الصيني الإفريقي ومنتدى التعاون الصيني العربي، ومشروع حزام واحد وطريق واحد الذي يستهدف ربط اقتصاديات إفريقيا وآسيا وأوروبا، والذي غطى أكثر من 68 دولة، بما في ذلك 65٪ من سكان العالم، وَ40٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2017، لذلك يقدر أنّه سيدرج ضمن أكبر مشاريع البنية التّحتيّة والاستثمار في التّاريخ، فهذه العلاقات التي تنسجها الصين مع بقية العالم، لها أهداف متعددة الأبعاد اقتصادية وتجارية ونقدية وجيوسياسية، فضلا عن القوة الناعمة التي تنهجها في تسويق نموذجها في التنمية البشرية والاجتماعية أمام العالم.

 

وبعد تمكنها من احتواء الفيروس، تعمل جاهدة على إرسال معدات وأطباء إلى أوروبا، وتمد العالم بعدد من الحاجيات، والتي تريد من خلاله أن توجه رسالة إلى العالم أنها على عكس الولايات المتحدة، شريك مسؤول وموثوق به.

 

استمرار العولمة بأولويات إضافية

يقول أندري كادومفسيف  andrei kadomtsevفي جريدة "الدبلوماسية الحديثة" في مقال بعنوان: "نظام عالمي جديد: أم أن العولمة ستنجو من جائحة كورونا"، إن العولمة سوف تستمر في التطور، سواء من الناحية الإيديولوجية أو من الناحية العملية. بحيث لا يمكن منع الاتصالات الجديدة بين الناس والدول بشكل كامل، لكن العولمة ستتخذ أشكالاً جديدة، ومن جهته طلب هنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا في عهد الرئيس نيكسون من الإدارة الأميركية حماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي.

 

كما أن المجتمع الدولي سوف يعمل على إيجاد توازن جديد بين أولويات التنمية الوطنية والعالمية. وأن السياسة التي تنهجها الدول سوف تتغير بإضافة التهديدات الجديدة كالأوبئة والتغييرات المناخية والكوارث الطبيعية إلى لائحة التهديدات التقليدية، كانتشار الأسلحة النووية.

 

- عبد العالي بنلياس، أستاذ القانون العام بكلية الحقوق السويسي