الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبد القادر رجاء: التلفزة المغربية بين أفق المواطنة و رهانات التغيير

عبد القادر رجاء: التلفزة المغربية بين أفق المواطنة و رهانات التغيير عبد القادر رجاء

من الطبيعي أن تحتل البرامج التلفزية عامة، والرمضانية منها على وجه الخصوص، واجهة النقاشات العمومية لدى المغاربة، سواء تعلق الأمر بما تعكسه شبكات التواصل الاجتماعي على خلفية ذات الموضوع، أو ما يتم التعبير عنه في مقالات رأي لمتتبعين وملاحظين، أو ما يتم التصريح به بشكل عفوي و طبيعي في لغة العامة و في أماكن متفرقة يرتادها المغاربة من الشارع العام إلى المقهى والحي والسوق.

لكن في الآن نفسه، من غير الطبيعي أن تحقق هذه البرامج التلفزية نسب مشاهدة جد مرتفعة ومتابعة منقطعة النظير؛ ذلك أن من هذه البرامج من تصبح جزء من لغة كل يوم وتمسي شخصياتها وتعابير من التعابير المتداولة فيها ذائعة الصيت ولاستعمال. وبالتوازي مع حجم الامتعاض والردود التي تسجل بشكل سنوي حول ما تقدمه التلفزة المغربية لمواطني هذا الوطن خلال شهر رمضان، هناك استهلاك ومتابعة كبيرين لهذه البرامج التي ينتقدها الجميع ويتابعها ويضحك عليها وبها السواد الأعظم من المغاربة.

ولعل هذا من الأسئلة المحيرة في قراءة كيفية تعاطي متتبعي هذه البرامج من المغاربة مع هذه الأخيرة، وكأن مشاهدينا ينتظرون كل رمضان لقول كلمتهم حول ما يعتبر لديهم مثار نقاش، وموضوعا لعديد الردود بين هذه الإنتاجات، ولا يجدون بدا من متابعتها، وبالتالي وضع خاتم الشهرة على ما يقدم خلالها وعلى سيرة أبطالها وشخصياتها عبر نسب المشاهدة والمتابعة.

وهذا الجانب إن كان له من دلالة في نظرنا، فهو يعكس جزء كبيرا من طريقة تفكيرنا وتفاعلنا مع مجموعة من القضايا والمواضيع، وحتى طرق تلقيها واستشراب وفهم حدودها وأبعادها؛ إذ أننا نسهب في الانتقاد الذي قد يصل إلى حده اللاذع، لكننا نفضل الاكتفاء بما لدينا من موضوع انتقادنا ومن أفق دون أن نعبر عن موقف مصرح عنه بالتصريح دون التلميح منها أو أن نبحث عن فرص أحسن وأرقى في موضع أخر مغاير.

إن الأسئلة الحقيقية التي يجب طرحها اليوم حول تلفزاتنا العمومية المغربية هو موقعها في رهانات الدولة الكبرى والتحولات القيمية التي يعرفها المغرب والعالم، ومدى احترام توجهاتها لدفاتر التحملات المعمول بها والقيم التي تروج لها في ظل التغيرات العالمية والتهديدات الأمنية والهوياتية، ومدى تحقيقها وتجسيدها لأدوارها وتعزيزها لقيم الوضوح والمواطنة والتعلق بالوطن وتنمية حس الانتماء له والدفاع عنه، على اعتبار أنها مدعومة في قسط كبير من ميزانياتها من المال العمومي الذي لا يجب بأي شكل من الأشكال إهداره في برامج فاقدة لكل قيمة تربوية وتحسيسية ومواطنة، تروج للعنف والنمطية والغباء وتبادل الاتهامات (بين الرجل والمرأة مثلا) وتنميط الأشخاص والأماكن والمدن والثورة على رموز الأسرة المغربية وخصوصياتها، والاستخفاف بها وإعطاء صور خادعة ومنخدعة عنها وابتداع سلوكات وأنماط تعامل جديدة وألفاظ وتعابير ليست بالضرورة من صنعنا الجماعي، أنماط تزيد مؤسسات الإشهار من تعميقها بشكل مقلق لاعتبارت يمليها منطق المقاولة والربح دون أي جانب آخر.

فمن الجميل أن نجد مؤسسات تجتهد من أجل ترسيخ معالم شخصية مغربية متزنة جامعة بين الخصوصيات المغربية ومستجدات العصر والمواطنة، في حين لا نجد نفس الهم لدى تلفزاتنا؛ إذ تعكس العديد من البرامج التلفزيونية وحتى الأفلام كثيرا من التناقض وكثيرا من الاستخفاف وهي تعيد اجترار الواقع بكل تجلياته عوض توجيه الاهتمام نحوه والدعوة إلى التفكير فيه دون إعادة إنتاج أزماته وكبواته وتمثلاته وفشله.

فما معنى أن تلصق برامجنا وأفلامنا بالمرأة دائما وأبدا كل الأدوار الدونية، وترهنها في بوتقات كلاسيكية وجنسية، في الوقت الذي أمسى فيه من الضروري إعطاء مزيد من الفرص للمرأة لقول كلمتها من زاوية إسهامها وموقعها في الأسرة والمجتمع والوطن دونما تصويرها في أشكال وصيغ غير مشرفة وبمظاهر وملابس تسهم في نزغ صفات الأنوثة والرقة عنها. ومن غير المعقول أن نعيد صناعة مضامين الحقد الاجتماعي والصراعات والكره، ونسهب في ذلك دون أية رؤية تحسيسية وتقويمية واضحة.. ومن غير المستساغ أيضا أن نقدم للمشاهد مضامين بحمولات غير إنسانية ولا مواطنة تكرس منطق القتل والجريمة والتخريب واستنزاف الثروات الطبيعية وإلحاق الضرر بالحيوان والمكان والإنسان.

ومن غير الطبيعي كذلك تقديم شخصيات ببروفايلات نمطية يجترها المجتمع تحت طائلة تراكمات معينة يحكمها منطق سلبي مرده إلى سلبية بعض الحالات والنماذج التي يحفل بها الواقع، ولا يمكن تقديرها بعين التعميم والجمع كالبدوي والفقيه والسجين وصاحب السوابق العدلية الذي يقدم تلفزيونيا وسينمائيا كامتداد للعنف ومصدر له، مما لا ينسجم بالأساس مع فلسفات وأدوار مؤسسات التأهيل والإدماج السوسيومهني للسجناء عامة.

في دولة كالمغرب، وفي سياق متسارع كما هو حال عالمنا اليوم، وبوجود شبكة مشكلة من باقة من قنوات القطب العمومي، بات من الضروري إعادة تهيئة البيت الإعلامي والتلفزيوني وكذا ما يتم إنتاجه وترويجه باعتماد مقاربات جديدة في اشتغال ووظيفة كل قناة واختيارات البرمجة وملحاحية القطع مع طرح الإعادة وإعادة الإعادة، وتوجيه هذه القنوات نحو الأهداف الكبرى للوطن وجعلها تحت وصاية السلطة التنفيذية والتشريعية لكي تساهم في إذكاء ثقافات متخلقة ومتنورة وبانية توازي بها اشتغال مؤسسات أخرى كالمؤسسات الدينية والتربوية التي تواجه الكثير من الظواهر المجتمعية والأنماط السلوكية، في واقع متسارع التفاعل والتحول مما يستوجب معه تظافر الجهود ونهج سياسات إعلامية واضحة وغير مستبدة ومستبلدة قادرة على جعل المخيال الجماعي يعيد إنتاج نماذج قيمية ومواطنة مغايرة تماما لتلك التي يعيد تجسيدها أطفالنا وشبابنا، وحتى كبارنا بكثير من الغباء والغناء والحموضة الزائدة.