الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

ميلود العضراوي: قراءة عابرة في قصيدة "جزولة" للشاعر الجزولي محمد الميلاجي

ميلود العضراوي: قراءة عابرة في قصيدة "جزولة" للشاعر الجزولي محمد الميلاجي ميلود العضراوي

أقرأ وأجد لذة القراءة ونشوة الامتاع والمؤانسة ولربما حين ابحث مليا في النص المقروء، أجد بضع خطوات لي تمشي على رقعة مبللة بندى الصباح الجزولي مترقرقة على أديم قصيدة تشبه حصباء بلدتي المقرفة المنغمسة في الحزن والنكبات. وجدت شاعرا من مدينتي الحزينة يبكي تحت شجرة قديمة تم قطع أوصالها من خلاف قبل أسابيع. وجدت نصا جميلا مليئا بالأسئلة قريبا من العين والقلب متواضعا تواضع المكان الذي جاء منه. لقد سبق لي ان قرأن العديد من القصائد والنصوص لأنني رغم بعدي الآن عن الأدب وانشغالي بقطاع آخر من المعرفة ما أزال احن المرة تلو المرة إلى معرفة ما وراء ذاكرة الشعراء وقيمة المخيال الفني في وسط ثقافي صار مشاعا ومتاعا وموطئا لكل من حمل في يده ريشة، أوليائك الذين على حين غرة من معبد الأدب وجدوا أنفسهم يقولون كلاما لا يشبه الشعر ولكن يشبه اشياء أخرى.

وهاهنا وجدت شيئا يدرج بين أزقة بلدة هجين لم تشأ لها الظرفيات الكسيحة أن تستيقظ لتخلع نفسها من الأسماء والأسر والكائنات العابرة التي ربطت اسمها بها، كونها ألفت قطف الثمار باكرا من بساتينها والاختباء بين ظلال المدن الكبيرة. وجدت أنا أيضا شاعرا استطاع أن يسرق راحتي لأكتب عنه هذه الكلمات.

لم أكن حقا استغرب وجود مواهب متلألئة في حوش الحجارة الجاف المبلل بالأمطار الشتوية الذي ندعوه سبت جزولة، كيف وأنا أيضا من هناك، فقديما قالت الحكمة إذا خلى المكان منك فهناك خلو حقيقي وحيثما كنت فتمة كائنات أخرى تشبهك. أصدقك القول أن القصيدة التي تنتشلني من مكاني وتضع يدها في يدي وتقودني إلى محرابها، قصيدة تملئ عيني وجوارحي وتعبر عن آلامي وأحزاني  وواقعي المكسور لأطلع على أحوال أهلها وما إليهم وكيف كانوا وكيف يكونون وما الذي ينتظرونه في زحام الوقت الآتي الذي لا يتكهن احد بما فيه. الشعر الذي يقنعني بالقراءة شعر يستحق أن تلتقط منه عيني بضع شذرات من الحقيقة المغيبة وبضع ثمرات من خيال الحلم الذي تعمل الإرادة والفعل كي يتحول إلى حقيقة، اتركني من الكلام الباذخ الذي يزج بك في أتون الغموض والأساطير القديمة، إن أكبر ملحمة يمكن لها أن تحتل مساحة الوجدان هي تلك الملحمة التي تنسج الواقع في مآسيه الفاتنة والتي تأتي وتمضي مثل شتاء الفصول.

أيها الشاعر لا تتواضع للأرذال فتفقد روحك بغباء، قم وتكلم واقفا اكتب واقفا كما كان يفعل ارنست هيمنجواي، والله لكلماتك فوق كل من تكلم مدعيا، شعرا في تلك البلدة. لقد جعلت مني رفيقا قريبا من أشجانك المستباحة، فطفولتك مثل طفولتي ما تزال تركض بين أزقة جزولة الضيقة التي حملت رائحة غبارها المسائي معي  وصرير رياحها يرافقني حيثما مضيت في كل شبر من هذا العالم. انت لم تستطيع النسيان مثلي وبقيت وفيا للنبضة الأولى التي خفق فيها قلب صبي استهام بشقراء تجلس إلى جواره في الفصل. هنالك ما يزال جاثما ذلك الماضي المصون ويشغل كل مساحات الحرف في وجداني. رأيت كيف يكتب الشعر الكلمات؟ ولمن تهب الكلمة سرها المجهول؟

انظر إلى هذه العبارة الجميلة التي تشبه محارة مليئة تركها الصياد على الشاطئ ومضى يبحث عن شيء آخر، "من فيض نكباتك روحي صارت عميقة وكئيبة"، "ما الذي أستطيعه ان كنت ولدت في جزولة" أقول لك تستطيع الكثير، وها أنت قادر على تشكيل الحروف من عجين الروح ولولا انك ولدت في جزولة لما قدمت إبداعا أقنع الأستاذ الدكتور ميلود العضراوي، ليكتب عنه كلمات مرتعشة. كلماتك من عمق الأنطولوجية الغاضبة المحتارة تأتي لتقول "إذا أتى الموت باحثا عني في يوم سيئ من أيامي، فادفعوا العربة باتجاه الريح (دوار الحجيرات) واتركوا العاصفة تحملني" الله الله ماذا أقول لك في هذا الجفول غير المنتظر للإبداع الذي حط سربه دفعة واحدة في كلماتك ؟ لعلك اخترت دوار الحجيرات لأنه مكانك المفضل على الرغم من غنائية كلمة الريح التي استبدلتها قصدا في روي القصيدة. عانقت في هذه الفقرة وفي الفقرة السابقة أسئلة الموت والحياة وكدت تقترب من تساؤلات الشاعر الإنجليزي "جون كيست" صاحب قصيدة "البلبل في الحديقة" أو "حديقة البلبل" كما هو معروف، قام يستجدي مكانا بادخا للموت ويجعل من غناء البلبل لحنا جنائزيا بدل موسيقى الكنائس ومن ترنيمة العصافير تابوتا للدفن. يقول ليفيناس Levinasالفيلسوف الكبير المتخصص في تيمة الموت: "إن الحزن الشديد ينزع برقع الحياة عن الروح ويترك الجسد يمشي في حين تمشي الروح حيث شاءت حين يكون الجسد هو مرمى الموت". لا شك أيها الشاعر انك تتحدث عن الموت برمزية عميقة تتكيف مع الواقع الذي تعيشه بلدتك الجميلة التي سقطت منذ أربعة عقود في شباك العنكبوت الذي افترسها بمنتهى الشهية وببطء من حيث كان الحارس نائما تحت ظل شجرة بعيدة.