الغوص في تفاصيل سيرة المقاومين المغاربة الأبطال، لا يتطلب فقط الجلوس رفقة من عاصروهم أو أفراد من عائلتهم والضغط على آلة التسجيل وتفريغ الكاسيط أو الشريحة الإلكترونية، بل يتطلب شغف البحث في أدق التفاصيل من خلال سنوات من الاشتغال والبحث عن مصادر خارج الوطن لجمع المعلومات ومقارنتها والتحقق منها ووضعها في سياقها التاريخي، كما يتطلب ذلك فضول النبش في ذاكرة العديد من المقاومين الذين اختلفت رواياتهم وتوجهاتهم السياسية ومساراتهم في التفاعل مع مجريات وأحداث المقاومة المغربية، ويجب أن يوازي ذلك القدرة على الوصول بكل الوسائل المُمكنة إلى أرشيف المخابرات العسكرية والمدنية الفرنسية المغلوقة بإحكام.. وكلها مصادر تجعلك أمام كتاب تلتهم صفحاته بنهم لتكتشف تاريخ من ضحوا بالغالي والنفيس من أجل استقلال الوطن وكرامة المواطن.. وهي صفات اجتمعت في الصحافي والكاتب لحسن لعسبي الذي أصدر مؤخرا كتاب المقاوم المغربي (مولاي العربي الشابي الشتوكي)..
"أنفاس بريس" التقت مع الزميل لحسن لعسبي وحاورته حول دواعي ومصادر والهدف من مؤلفه الجديد..
+ في مقدمة الكتاب نقرأ أن سيرة الرجل وتقصد (المقاوم مولاي العربي الشابي الشتوكي) تستحق أن تُروى.. لماذا اختيار هذا المقاوم ولماذا تستحق قصة مساره أن تُروى؟ .
- عندما جمعت معلومات عن حياة المقاوم مولاي العربي الشابي الشتوكي، وجدت أنها مثيرة وتختلف عن كل المقاومين الآخرين، لأن ظروف حياته جعلته مقاوما منذ كان عمره ست سنوات، شاء القدر أن يزداد في سنة 1913، أي مباشرة بعد الحماية (1912). بعد وفاة الأب وأقرب الأشقاء له (أخته نفيسة)، بقي تحت رحمة إخوته الكبار (يكبرونه بـ 10 سنوات إلى 15 سنة)، قاوم أولا من أجل الاستمرار في الحياة، وفي سنة 1929 سيقرر مغادرة قريته وكان عمره آنذاك 16 سنة. كان يقاوم ويجد نفسه مرة أخرى في ظرف ووضع آخر يتطلب المقاومة، قاوم أيضا المرض الناتج عن العمل في المناجم، فبحكم أنه كان يعمل في هذا المجال عاد له المرض بعد 50 سنة إلى أن توفي... الاختلاف في سيرته كان يتمثل معنى خاص للوفاء، ومن خلال تحليلي لشخصيته حسب المعطيات التي توفرت لي في بحثي، وجدت أنه كان إنسانا يعتبر الآخرين كيفما كان نوعهم عند ثقته فيهم عائلة له. عندما اشتغل مع عمال المناجم أصبحوا عائلة له وكان زعيما لهم، وعندما ظهرت عائلة أخرى لها دور سياسي ووطني وهي الحركة الوطنية وحركة المقاومة، انخرط معها بكل حب وحتى النهاية وهنا أعود لتصريحات عبد الرحمن اليوسفي عندما قال أن مولاي العربي الشابي كان كتوما ولا يتكلم كثيرا لكنه عندما يقتنع لا يتردد، هذه الشخصية بسبب اليتم وبسبب المقاومة التي عاشتها في حياتها، كانت تعتبر العلاقة التي تجمعها بالآخرين خصوصا المقاومة وجيش التحرير علاقة عائلية وهذا هو معنى الوفاء.
+ في سياق الحديث عن شهادة عبد الرحمن اليوسفي في حق المقاوم (مولاي العربي الشابي)، يبرز الحديث عن خروجه من حزب الاستقلال والتحاقه بالحركة الاتحادية.. كيف تفسر داخل الكتاب هذا التحول؟
- صحيح أنه في الاستقلال انخرط المقاوم مولاي العربي الشابي في الحركة الاتحادية وخرج من حزب الاستقلال وانضم لمجموعة (المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد واليوسفي وعبد الله إبراهيم والمحجوب بن الصديق والفقيه البصري وغيرهم..) لكن عندما نشب صراع سياسي ضد الدولة وبعد اختطافه هو في 1963 من قبل الجنرال أوفقير واختطاف المهدي بن بركة سنة 1965، سيتراجع مولاي العربي للوراء بقناعة أن الهدف من المقاومة هو حرية البلاد والوطن، وكان له تمثل خاص للوفاء والالتزام السياسي، إذ كان الأمر بالنسبة له مسألة مبدأ. انتقل للاهتمام بتجارته ونجح فيها، لكن المثير في شخصيته هو أن صداقاته الكبرى والحميمية كانت فريدة ومختلفة عن باقي المقاومين، إذ تجد أن أقرب الأصدقاء له كانا عبد الرحيم بوعبيد والخطيب، رغم أنهما كانا شخصيتان مختلفتين بل ومتناقضتين، وهذا ما دفعني لاختياره كنموذج والغاية بالنسبة لي من وراء كتابة سيرة هذا المقاوم هي توجيه رسالة للأجيال الجديدة بخصوص مجموعة من السلوكات التي ميزت هذا المقاوم..
+ من المعلوم أن رصد سيرة المقاومين، تتطلب الوصول لمصادر تمكن من الحصول على معلومات دقيقة وتاريخية.. ما هي المصادر التي استعنت بها في الاشتغال على إنجاز كتاب (المقاوم مولاي العربي الشابي الشتوكي)؟
- اشتغلت على ثلاثة مصادر مهمة، المصدر الأول: (ناس المقاومة) الذين عاصروه، ومن الأسماء التي وردت في هذا الإطار وجاءت المعلومات على لسانه قبل وفاته أذكر الفقيه البصري وما زالت بحوزتي شهادته مسجلة، وجاء الحديث عن مسار "مولاي العربي" أيضا في شهادات للمقاوم منصور رحمه الله، وعندما قررت الاشتغال على الكتاب استعنت بهذه الشهادات، كما التقيت باليوسفي وبن سعيد أيت يدر، لأن "آيت يدر" ابن المنطقة التي ينحدر منها (مولاي العربي) وهي شتوكة آيت باها بنواحي أكادير، واليوسفي كان صديقا للمقاوم مولاي العربي الشابي.
المصدر الثاني: العائلة، حيث التقيت بولديه ووجدت أن حفيدا له أنجز عنه "بحث ماستر" بفرنسا بباريس موضوعه عن (المقاومة المغربية كحركة تحديثية مجتمعية ودور اقتصادي وسياسي..) وقد ضمَّ هذا البحث وثائق مهمة وشهادات مثلا شهادة الخطيب، وحصلت عليها من الحفيد واستمعت لها مباشرة ولدي نسخة من الكاسيط وقد وجدت أن أب هذا الحفيد ولد وأبوه (مولاي العربي) معتقل، واعتمدت أيضا شهادة كبرى بنات هذا المقاوم وهي زينة الشابي وعاشت مع أبيها تفاصيل ومعلومات مهمة جدا وتتذكر جيدا العمليات التي وقعت وأصدقائه الذين كانوا يزورونه وكان عمرها 10 سنوات عندما رجع هذا المقاوم للمغرب من فرنسا في سنة 1952.
المصدر الثالث: اعتمدت على أرشيف الصحافة الفرنسية وخصوصا المحاكمات والاعتقالات، واشتغلت أيضا على جزء من الأرشيف العسكري الفرنسي الذي تمكنت من الوصول إليه بوسائلي الخاصة.
+ لنقف عند النقطة الأخيرة، وأقصد معلومات الأرشيف العسكري الفرنسي، علما أن الأرشيف العسكري لأي بلد يُحيط به "جدار" السرية والتكتم.. كيف تمكنت من الوصول إلى هذا المصدر، وهل كانت هذه المعلومات متاحة بشكل مباشر؟
- لم أصل إلى الأرشيف العسكري الفرنسي بطريقة مباشرة، بل بطريقة غير مباشرة، فقبل عشر سنوات اشتغلت على سيرة الشهيد محمد الزرقطوني عبر مصادر خاصة وعندما كنت أشتغل على إنجاز كتابه، عرفت أولا مكان تواجد هذا الأرشيف بفرنسا في "تولان" وبعد ذلك اشتغلت على هذا الأرشيف، الذي توزع بين الأرشيف العسكري والأرشيف المدني، ولا يتواجدان في نفس المكان وبوسائلي الصحفية وصلت لمعلومات لا يرقى إليها الشك، وهي عبارة عن أرشيف خاص بمجموعة من الأسماء المنتمية للمقاومة الوطنية، منهم الزرقطوني ومنهم مولاي العربي الشابي وهي عبارة عن معلومات دقيقة، فيها ما كان يدوَّنُ عنه في أرشيف المخابرات الفرنسية حين تواجده في "سانتتيان" بفرنسا: كيف دخل لحزب الاستقلال؟ كيف أدى القسم؟ من كان معه من المقاومين؟ كيف كان ينظم اللقاءات بالمقهى التي كان يتردد عليها؟ التجمعات التي كان يشارك فيها؟.. وقد عدت بعدها لأرشيف الحكم العسكري الذي صدر في حقه بالمغرب وحيثيات هذا الحكم.. وفي الكتاب تفاصيل مهمة عن مسار هذا المقاوم، وتفاصيل ووقائع مؤثرة في تاريخ المقاومة المغربية للاستعمار الفرنسي.