بثت القناة الأولى برنامجا أريد له أن يكون موجها لفلذات الأكباد، وأن يعود بنا إلى البرامج الخاصة بالطفل التي تفتقدها القنوات المغربية، وهو الأمر الذي أعاد الحنين إلى برامج تربوية هادفة مثل برنامج "عمي دريس صديق أنيس"، لكن بمشاهدة لحلقة من حلقات برنامج "أطفال على بال"، يكتشف المتلقي أن هذا البرنامج بعيد كل البعد عن الهدف الأسمى لبرامج الأطفال، بل ويتخبط في العشوائية وعدم الضبط، والافتقاد إلى فقرات من شأنها أن تتفاعل مع الطفل بشكل تربوي هادف، يحترم ضوابط العمل التربوي الفني الموجه لرجال الغد، مع العلم أن هذا البرنامج يعاد بث بعض حلقاته وكأنه برنامج نموذجي يستحق الإعادة، أم أن الإعادة جاءت انسجاما مع مقولة (ما تكرَّرَ تقرَّرَ)، أم أن مبدعي مجال فنون التعبير الموجهة للطفل في المغرب غائبون أم تمَّ تغييبهم.
منذ بداية البرنامج أي في الجينيريك، نفهم أن العنوان ليس "أطفال على بال" بل "سعيد بيبو" منشط وبهلوان البرنامج، إذ تقول لازمة الأغنية على لسان هذا الأخير بلباس عادي : شكون معاكم اليوم؟ ويجيب أطفال الكورال : "سعيد بيبو"، وبعدة فترة قصيرة يظهر عشوائيا بلباس البهلوان بدون سبب مقنع، وتتضمن أغنية البرنامج كلمات عطفا على كلمة "سعيد" (برنامجكم لجديد)..( أطفال على بال) وتأتي بعد ذلك عبارة "بعيد" في (كلكم كتشوفو بعيد) و تقول أيضا الأغنية : (فقرات البرنامج فيها الرقص والحرية) و(الفكاهة والتسلية معلومات وتوعية)..، لكن لم يتوفق البرنامج في تقديم مادة تلفزيونية تحترم معايير تقديم التسلية ممزوجة بالتوعية بشكل غير مباشر، يؤثر في نفسية الطفل بشكل انسيابي، إذ سقط البرنامج في السطحية والحشو.
وحتى لا يُنظرَ إلينا بنظرة المتحاملين على هذه المادة التلفزيونية دون تبرير ونقد موضوعي، فإننا لا نتحدث عن طريقة قبول هذا البرنامج في زمن طلبات العروض وفتح الأظرفة وفق بنود دفتر تحملات، جاء لتثمين الجودة وتحقيق التنافسية، بل نسلط الضوء على ما ميَّزَ هذه المادة التلفزيونية، من ضعف على مستوى الشكل والمواضيع، إذ افتقد للحس الفني والجمالي المثمر، خصوصا وأنه موجه لفئة جد حساسة من المجتمع، لا يمكن توجيهها وتمكينها من الترفيه والمعلومة، فقط بتوسل الرقص العشوائي والشكر والتصفيق وأسئلة : شنو سميتك؟ شحال فعمرك؟ فين كاتقرا؟ وأخرى مثل : واش أنت مجتهد؟ أشنو باغي تخرج في المستقبل؟ واش كاتفطر ولا مكاتفطرش؟...
وهي أسئلة تطرح على الأطفال ضيوف البرنامج، كما تتطاير كرة (فريق كرة قدم) غير متجانس ويلعب بخطة غير مهيأة بشكل احترافي، والأنكى من ذلك كله أن البرنامج انقلب في غفلة من القناة والمنشط إلى فئة أخرى من المجتمع مع الفارق، ففي حلقة موضوعها (الكلام) أو "هضرة الزنقة" كما جاء في البرنامج، تكفي المشاهد والناقد 12 دقيقة الأولى من الجلوس أمام صندوق العجب، لكي يجد أن الخط التحريري للبرنامج، خرج عن سكته المفروض أن يلتزم بها، ذلك أن الفقرة الأولى بعد الجينيريك جاءت كالتالي :
المنشط يستقبل أطفالا وصفهم بأطفال مدرسة "كدا وكدا" ويرحب بهم، ثم يدخلون للبلاطو بشكل عادي جدا، دون ترتيبات فنية على مستوى السينوغرافيا والحركة والتنقل، أي أن أي بهلوان أو منشط يمكنه أن يقوم بذلك، دون اجتهاد من فريق الإعداد والمنشط، الذي خاطبهم بشكل جاف وسطحي بعيدا عن البساطة في بعدها الإيجابي، وأغلبهم بلغ 7 سنوات في عصر السرعة والإنترنت، مع تسجيل أن الأطفال لا يتحملون أية مسؤولية، بحكم أنهم ينفذون ما يؤمرون به، فلو طلب منهم الدخول بشكل أكثر فنية، لقاموا بذلك، بل يمكن لمنشط و"كوتش" متمرس أن يمكنهم من تدريبات لكي يتقنوا الأساليب الحركية المدروسة في مجال التعبير الجسدي، لكي يتم تنفيذها بمتعة وعفوية من طرف الفئة المستهدفة - لكن فاقد الشيء لا يعطيه للآخرين - والمثال مستخرج من الحلقة المذكورة التي تضمنت مثل هذه المشاهد :
المنشط : ياك انتوما هوما الأطفال ديال مدرسة (كذا وكذا) .. كاتقراو مزيان؟ كاتاكلو مزيان؟ ..
الأطفال : نااااعااام. - أي نعم بالمد والصياح -.
المنشط : صفقو على راسكم .. آش سميتيك ؟ صفقو عليها .. زوينة وكاتقرا مزيان .. شكون كايكلس حداك في الطاولة؟.
طفلة : - تجيب بعفوية -.
المنشط : شكون حافظ شي أغنية؟ آشنو بغيتي تكوني في المستقبل؟
طفلة : دكتورة ...
المنشط : صفقو عليها ... واش كاتقراو القرآن؟ صفقو عليهم... واوا واو .
والأطفال يصفقون بعفوية.. وفي آخر هذه الفقرة التي يمكن نعتها "بدون اتجاه"، يدخل المنشط في لباس البهلوان بعد تقطيع ومونتاج، وهنا ينتقل البرنامج لفقرة دخول البهلوان دون إعداد محكم ودون تبرير، ويبدأ الرقص والتلويح بالأيادي. لكن البهلوان يوقف الرقص ويخرج معاتبا الأطفال، على عدم تفاعلهم رغم أنهم تفاعلوا بشكل عفوي ثم يعود مجانا ويقول :
المنشط في ثوب البهلوان : شكون يقدر يشطح معايا شي شطيحة زوينة؟ .... يالاه .. بغيت نلعب معاكم ولكن ماتغديش مزيان. شكون لي تغدا مزيان اليومة؟ كاتغادو مزيان؟ وملي كاتفيقو الصباح كاتفطرو ولا مكتفطروش؟.
هنا تغير موضوع البرنامج من "هضرة الزنقة" إلى أهمية الفطور في الصباح دون ذكر ذلك ودون سكريبت يحترم (قواعد الإنتاج الفني التلفزيوني الموجه للطفل لأنه لا يعتمد على عناصر ومحاور مترابطة ترابطا محكما)؟
المنشط : الأطفال الزوينين هوما لي كايفطرو الصباح .. متافقين ..
هنا يمرر البرنامج أن الطفل المثالي هو من يفطر فقط في الصباح وكأن الطفل المغربي يفطر في المساء أو العصرونية، ونسأل أصحاب "هذه الفكرة" عن حكمهم على الطفل الذي يتناول الغداء والعشاء واللمجة أيضا، لأن البرنامج لم يقدم أهمية هذه الوجبة (الفطور) وترك الطفل يتماهى مع ما يقدم بشكل غير موجه وغير مضبوط وغير واضح المقاصد، لأن الفقرة قبل ذلك لم تطرح بتاتا، مشكلا متعلقا بامتناع الطفل عن تناول الوجبات مثلا، وهذا شرخ في البرنامج يتحمله القائمون على تقديمه لأبنائنا في قناة عمومية.
انتهت الفقرة الأولى، ومرَّ المنشط بشكل عادي وبـ (رأس مرتاح) كما يقول الفرنسيون a tête reposée نحو الفقرة الثانية، وكفاه الله شر "القتال" مع الإبداع الراقي، الذي يحترم خصوصيات نفسية الطفل، وابتدأت الفقرة الموالية بـ :
المنشط : (بلباس عادي مخاطبا المشاهدين ومشيرا للأطفال ضيوف البرنامج) : (عرفتو ماسكتهم غير بالزز).
وقد جاء هذا التعليق، رغم أنه قبل القطع والتوضيب ظهر الأطفال بشكل منضبط وعفوي ولم يكونوا يصرخون أو في لوحة تبرز أنهم في فوضى أو لا ينتبهون لتعليمات "قائد فقرات" البرنامج رغم أن المنشط نفسه هو من طلب منهم قبل ذلك "الرقص والنشاط"، والأتي أكثر من السابق على مستوى العشوائية والبعد عن معايير برنامج تربوي موجه للطفل، كان على المقترحين له والموافقين على صفقته أن يقفوا على الصيغة الفنية والأدبية لتقديمه في حلة تجعله يمزج بين الفكاهة والتوعية، حسب "بنود دفتر تحملات" هذه المادة التلفزيونية التي ظهرت بالجينيريك، والحديث يتعلق بـ fiction تم حشوه في البرنامج عبارة عن "فقرة أخطاء" ترتكز على لوحة تمثيلية، وهنا انتظر المشاهد أن ترمق عينه أخطاء يرتكبها الأطفال بعفوية، سيتناولها البرنامج بالتحليل الفني والمعالجة بمعية طاقم الإعداد والإخراج، وهذا هو المفروض، لكن قدمت الفقرة مشاهدا من تمثيلية، بطلها أب وأم وطفل صغير، يظهر الأب رفقة ابنه في صالون المنزل يشاهدان لقطات من فيلم لرجل يسوق سيارة وبجانبه فتاة.
الطفل : ناري ناري بابا .. عرفتي هاد "الساط" عندو حديدة واعرة.
الأب : وشتو وشتي الساطة الخياكات لي ضاربة كدايرة؟ .. والتويشية لي لابسة..تشاخ !!! واو !!!
الطفل : أنا ملي غادي نكبر غادي نشري بحال هاد لحديدة..
الأب : عرفتي شحال خصك ديال اللعاقة؟
الطفل : أنا عندي اللعاقة ..
الأب : وزيَّر معايا الساط ..
واضح أن هذه الفقرة موجهة للأب والنصائح تهم الأب وليس الطفل، لكن البرنامج جمع الاثنين بصيغة التضامن في المسؤولية عن السلوك الذي تناوله البرنامج، وتم توجيه العتاب أيضا للابن بطريقة سطحية، لأنه بعد هذه الفقرة ستعاتب الأم الأب وتطلب من ابنها الالتحاق بغرفة نومه.
حيث تقول الأم : ياك آسي ياسين (الأب) ياك، هدا هو لكلام الزوين لي كاتعلم لولدك ..دابا أنا كانظل الليل كامل نقري فيه وكانحفظ فيه باش تجي نتا نعلمو الهضرة ديال الزنقة ..ماحشوماش عليك .
الأب : تمالي أزينب؟ ديما كاتخرجي ليا بـ "هيت جديد".. وكانهضر معا ولدي عادي .. جبت ليه فيلم وكاناقشو عليه.
الأم : آسي ياسين، راه نتا لي خصك تكون المثل الأعلى بالنسبة ليه. وتوجه كلامها بحدة لابنها : نوض ضنتا لبيتك.
الطفل : عافاك .. يبكي وينصرف ..
لن نخوض في تحليل خطاب المشهد الأول وما بعده من مشاهد، لأن الأمر واضح، لكن يجب الانتباه أنه بعد نهاية الفقرة التجأ المنشط إلى رصد رأي الأطفال في "مضمون فقرة أخطاء"، حيث تدخل مرة أخرى بدون اتجاه اللهم اتجاه نحو أي فعل وأي قول بعيد عن الحرفية في التناول إذ قال :
المنشط (بصيغة التمني وهنا كان عليه الحسم في رسالة البرنامج التي لم تكن واضحة في الأصل وافتقدت للإعداد الجيد والعمق والبساطة السهلة المُمتنعة) :أصدقائي الأطفال نتمنى تكونو عرفتو المشكل ديال الحلقة ديال اليوم والأهم .. هو ناخدو العبرة من الأباء والأمهات ديالنا، الأطفال ديال اليوم هما على بال، ولكن خصنا نعلموهم كيفاش يهضرو ..سؤالي : اشناهو الخطأ لي وقعات فيه العائلة ديالنا في حلقة اليوم؟
طفلة :هو الأب كان كايدوي معا ولدو بلكلام الخايب ديال الزنقة.
إذن حسب جواب الطفلة العفوي والصحيح، على البرنامج أن يغير العنوان من "أطفال على بال" إلى "رجال ماشي على بال". ونتابع مع سؤال المنشط لتطوير الحوار مع الأطفال.
المنشط : علاش مامزيانش؟ (والحديث عن السلوك المقترح للمعالجة).
الطفل (معلقا على سلوك الإبن): خصو مايخرجش للزنقة يسمع لكلام الخايب، ويدخلو اراسو وكاع مكاينساه... وكايحلم أحلام خايبين وكايبقا يهدر مع الناس لكلام الخايب.
طفل آخر : الأب لي بقا تايدوي مع الولد بكلام الخايب..
هنا غاب عن المسؤولين على البرنامج بشكل غير مقبول أن الأب هو أيضا مصدر للخطأ وليس (فقط الزنقة) المنشط يلخص الخطأ، قائلا :
المنشط : خطأ في طريقة الكلام مع الأب ديالو آشنو خص رفيق (الإبن) يدير؟.
لكن في الحقيقة الخطأ ليس في كلام الأب فقط، بل في طريقة تناول هذا الموضوع الذي زاغ بالبرنامج في هذه الحلقة عن الفئة المستهدفة.
جواب طفل والحديث (عن الأبن):خصو يخرج مرات مرات للزنقة ..
وهنا كان قصد الطفل أن لا يخرج الابن للشارع كثيرا، بل "مرة مرة" حسب طريقة تعبيرنا بالدارجة، لكن لم يتدخل المنشط لتوضيح قصد الطفل والإشارة إلى أن الشارع هو المسؤول عن تعلم الأطفال الكلام الخايب حسب فكرة الحلقة رغم أن هذا الحكم مخالف لطريقة إنجاز اللوحة التمثيلية التي أوضحت أن الأب يشجع ابنه على استعمال كلمات ومصطلحات وصفها البرنامج بـ "الكلام الخايب" و"كلام الزنقة".
المنشط : كيفاش يمكن نتفاداو هاد المشكل ؟
طفل :ماخصناش نبقا نخرجو للزنقة بزاف. باش ماتعلموش الهضرة..
المنشط : شكرا جزيلا لأطفال "مؤسسة كدا وكدا"، أصدقائي المعلومة وصلات والاستفادة حتى هي..
إذن الخلاصة التي وصلت لوجدان الطفل المشاهد واضحة وضوح صفقات التلفزة بعد دفتر التحملات، وهي أن السبب في تعلم "الكلام الخايب" حسب البرنامج هي (الخروج للزنقة) ووصلت الفكرة حسب المنشط وحتى المعلومة، الأسئلة تتناسل بعد هذه الملاحظات :
هل بهذه الطريقة يمكن أن يعالج التلفزيون موضوعا موجها للطفل؟ دون اجتهاد ودون الأخذ بعين الاعتبار لآليات وأدوات وميكانيزمات التواصل الفني مع الطفل؟.
هل يفتقد معدو البرنامج لوسائل فنية أكثر عمقا لتناول المواضيع بطريقة انسيابية بعيدا عن الأسلوب المباشر والفج الذي يبرر كل شيء بكل شيء؟
هل عجز المبدعون في مجال الطفل عن ابتكار برنامج أكثر تفاعلا مع الطفل مع احترام خصوصيات مرحلة الطفولة و الانتباه لتطور عقلية الأطفال بفضل انفتاحهم على التكنولوجيا وتفاعلهم مع بعض البرامج الدولية والعربية المتطورة في هذا المجال؟
الأجوبة تملكها إدارة الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزيون ومعها وزارة الاتصال...