يبدع صاحب الديوان الشعري الجديد"إشراقات في حضرة الخلوة"، الشاعر المغربي عز الدين جنيدي، الشعر بأسلوب فصيح ولسان بليغ، مُستعملا العديد من المفردات الشاقة، كما يُسعفه اهتمامه بالمجال الموسيقي، في نظم الشعر بأبعاد فنية وجمالية تؤثر بشكل واضح في تشكيل نصوصه الشعرية. يقول مُحارونا أنه لا يكتب الشعر للآخر، بل الآخر هو من يستكتبهُ - حسب تعبيره-. كما يرى أن النزول بالشعر لمستوى "العامة"، خرق فاضح لشفرة الكتابة وتحولاتها العامة، ويفيد أن الإبداع يكون أحيانا أكثر واقعية من الواقع، مُبرزا أنه (الإبداع) إفراز وتفكّر وصياغة، وخلق جديد لواقع جديد، "لا يقبل بكل ما هو مستورد ودخيل على موروثنا الثقافي المتعدد".
تمَّ مؤخرا (18 فبراير الجاري) توقيع الديوان الشعري الجديد "إشراقات في حضرة الخلوة"، برواق مكتبة فرنسا، ضمن فعاليات المعرض الدولي للكتاب والنشر بالبيضاء النسخة 22.
"أنفاس بريس" التقت بالشاعر (عز الدين جنيدي) وكان معه هذا الحوار..
ماهي أهم التيمات التي اشتغلت عليها في ديوانك الجديد؟
التيمات التي اشتغلت عليها في ديواني الجديد "إشراقات في حضرة الخلوة"، لا تنأى عما بات يعيشه عالمنا من توترات وتمزقات، تتعاظم وتزداد عمقاً، مصدرها - للأسف - الإنسان باختلاف التربة وتباين الأسباب، أعرضها بصيغة الثنائيات المؤسسة لأنساق حياتنا العامة بأقصى صور القلق والألم الممكنة، مع ما يقابلها من عناصر الفرح والسعادة والانعتاق، في أفق خلق عالم أكثر عدلاً وتحرراً ننشده جميعاً، في هذا السياق أستحضر جهة نظر للكاتبة الرائعة نوال السعداوي إذ تقول :" أكتب لأن العالم لا يرضيني، ويغضبني، فبالكتابة أخلق عالماً بديلاً أكثر عدلاً وصدقاً وحرية".
تيمات ديواني هي "تيمات" نلجأ إليها كمتنفس كلما ضاق صدر الإنسان، باعتبارها كوة نطل من خلالها على أبواب الأمل والانعتاق شبه الموصدة مع شديد الأسف، بغرض خلق توازنات - أو هكذا نتوهم- بمعيشنا البشري، والانتماء بالتالي إلى كل ما هو صادق ونبيل بهذه الحياة .
هل تكتب الشعر لنفسك أم للآخرين؟. وماهي حدود العلاقة في الشعر بين الأنا والآخر؟
لحظة الكتابة لها حدودها الخاصة، أنا لا أكتب للآخر، ربما الآخر من يستكتبني، الشاعر يعمل باستمرار، وبشكل رهيب على التقاط جزئيات الحياة، من خلال ترتيب الصور والأشكال بغرض صياغة معانٍ جديدة للوجود، والنتيجة أنه يصير ذاتاً كونية بقوة الفعل والتفاعل، وهو مسار يروم من خلاله وضع أصبع الإبداع على دوائر الضوء المفتقدة، وإلى ترسيخ القيم الفضلى للإنسان، واضعاً بعين الاعتبار حدوداً فاصلة بين "الذات" باعتبارها شخصية كلية بكل الجوانب المحيطة بها، وبين "الأنا" التي لا تعدو كونها الدائرة الأصغر في هذه الدائرة الكبرى، هي علاقة معقدة نوعاً ما، نكاد لا نمسك بخيوطها السيميائية والفلسفية، وأنا إذ أقرّ باستكتاب الآخر للشاعر، فلأن الأمر اعتراف ضمني بجدلية التفاعل القائمة بقوة الأشياء، يبقى فقط أن نعترف بكون الشاعر يبقى شخصية منهكة بالتجارب، فهو لا يعود منها إلا ليموت في كامل السعادة، أو هكذا يقول الشاعر الفرنسي "جواكيم دوبلي"، سعادة تقترن بالموت لا بالحياة .
قراءة في ديوانك الشعري الجديد لا زال أسلوبك الشعري يستلزم أن يكون المتلقي على درجة كبيرة من الإلمام باللغة العربية الفصيحة، إذ تستعمل دائما مرادفات شاقة مثل (ديجور - ثَغْرٍ – سُورْيَالِيٍّ ) والأمثلة عديدة ، هل أنت ضد "دمقرطة" الشعر والنزول بمستواه للعامة؟.
أعتقد أن السؤال يرتبط بتصور نظري عام، له علاقة بمفهوم الكتابة عموماً التي ترفض الخضوع أحياناً إلى إملاءات قواعد الجنس الأدبي، حسبي أنه طرح يرفض النمطية، الكتابة حد بدئي للممكن حسب تعبير "ر. بارث"، وهي تنشد التغيير باستمرار، ليس على مستوى الموضوعات فحسب، بل حتى على مستوى اعتماد آليات جديدة، تعاند التاريخ وتخلق لنفسها مشاريع رؤى جديدة، تعيد النظر في الكائن وتفكر بشكل مطرد فيما ينبغي أن تأخذه أشكالها، بمختلف الأجناس الأدبية، باعتبارها غلياناً مستمراً ينمو ويتجدد، ثم إن الكاتب، يبقى بشكل أو بآخر، و رغم هذا المعطى الهام، ابناً شرعيا للتربة الأدبية التي أنجبته باختلاف مذاهبها وتوجهاتها، قلت، هي مشاريع عمل تتمرد - حتى وإن كانت خاصة، لارتباطها بتاريخ الذات الكاتبة - تتمرد /على انتظارات الآخر/المتلقي، على مستوى القراءة والتأويل ـ أما الحديث عن "دمقرطة" الشعر، فينم حسب اعتقادي المتواضع عن خرق فاضح لشفرة الكتابة وتحولاتها العامة، والتي تتعارض تماماً وثنائية العرض والطلب غير المدرجة أصلاً بمتون الخلق والإبداع أوبحقولها الدلالية.
الدكتورة "فاطمة مرغيش" في قراءة نقدية لإصدارك الشعري الجديد (إشراقات في حضرة الخلوة) كتبت : "عندما نختار قراءة الشاعر عز الدين جنيدي ، فإننا نختار البقاء على قيد اللغة" واستبدلت اللغة بالحياة مجازا، هل ترى أن الوقت مازال يسعف شعريا للعناية باللغة في عصر الإنترنت والتواصل بين الجنسين، بكتابة العربية والدارجة بحروف فرنسية بمستوى مبتذل وبسيط جدا، وانقراض رسائل التواصل والغرام بلغة عربية سليمة؟.
حقيقة أن هذه الأشكال التعبيرية الدخيلة، أنعشتها عوامل كثيرة. عالمنا غدا قرية صغيرة بكل تحولاتها العميقة التي أفرزت - من بين ظواهر أخرى سلبية للأسف الشديد -، هذه الأنماط التعبيرية والتواصلية التي تتحدث عنها، والتي أعتبرها مندرجة في حكم الشاذ، كأن نأخذ بها، أو بالأحرى، نأخذ بالإيجابي منها تحديداً، باعتبارها أمراً واقعا، دون أن نقيس عليها بقوة الفوارق الظاهرة والباطنة هنا، كل شيء فان إلاّ وجه الأدب والإبداع، الإبداع يكون أحيانا أكثر واقعية من الواقع، إنه إفراز وتفكّر وصياغة، هو بدون شك، خلق جديد لواقع جديد، لا يقبل بكل ما هو مستورد ودخيل على موروثنا الثقافي المتعدد مع بعض التحفظ، والذي علمنا عبر التاريخ أن كل ما نهجره ينأى عنا إلى غير رجعة، أما ما يثبت، فهو أشبه برسم أو ذكرى، نتكئ عليهما خلقاً وإبداعاً، وقد تكون لنا فيهما مآرب روحية وإنسانية أعمق وأجدى .
بحكم اهتماماتك الموسيقية وتخصصك في مجال "اللسنيات الاجتماعية"، نجد أن من العلامات البارزة في أسلوبك الشعري توسل المفردات والموسيقى. حدثنا عن العلاقة بين الموسيقى والشعر داخل ديوان "إشراقات في حضرة الخلوة" و وظيفة الموسيقى في إيصال المعاني انطلاقا من الألفاظ (صوتا وإيقاعا) .
أعتقد أن لهذا الجانب، أبعاده الفنية والجمالية في تشكيل النصوص الشعرية، رغم الاختلافات الجزئية الحاصلة حول هذا المعطى الهادف إلى إحداث إيقاع يسير وفق نظام خاص في النسق النصي من خلال تضافر الأصوات اللغوية، مروراً بالكلمات وانتهاء بترابط الجمل، تأتي من خلالها ثنائية الصوت والمعنى أشبه بمحاور استبدالية، مادتها اللغة من خلال توظيف المعادلات الصوتية والإيقاعية وغيرهما، بغية بلوغ إيقاع شعري موسيقي يضفي إلى عناصر التشكيل قوة جمالية تتجاوز حدود الكلام العادي بقدرتها على التعبير عن العمق الإنساني فينا ، وأكثرها تأثيراً . الإيقاع بهذا المفهوم ، يكمن في العلاقة بين الكلمات والحروف والمفردة وما يجاورها من أنساق صوتية وتعبيرية ، إن البقاء على قيد اللغة/الحياة ، بتعبير الدكتورة فاطمة مرغيش ، لهو دعوة مبطنة في منظوري الخاص ، تزيح اللثام عن مسألة الوعي بماهية الشعر ، فضلاً عن الوعي بماهية الإبداع الفني عموماً ، وهي نقطة في غاية الأهمية ، باعتبارها تهدف إلى مجاراة جماليات النسق بغرض إنتاج صورة كلية متكاملة تفعل إيجاباً في البناء العام للنص ، وأعترف هنا أن جانب تخصصي في البحث اللسني (اللسانيات الاجتماعية تحديداً) كان ، ويكون له الدور الفعال في الاشتغال على هذه الأبعاد الهادفة إلى تشكيل قالب شعري يمزج بين كافة الأدوات والتقنيات المحتملة والمتاحة لبلورة جمالية النصوص الأدبية عموماً ، والشعرية منها بوجه خاص.
على اعتبار أن المسرح نابع من الشعر، وفي مدن يونانية قديمة مثل (سيكوون وكورينثة) كان قد تحول الشاعر إلى ممثل بالمعنى الصحيح، وأضحى يمثل ويغير الملامح والملابس، وقد تأثرت بهذا الأسلوب المسرحي الكثير من مدارس "أب الفنون" على المستوى العالمي والعربي.. لماذا غاب الشعر عن الفرجة المسرحية المغربية وهل من مبادرات من جانبك لإحياء الشعر المسرحي؟. أم أنك تكتفي بكتابة الشعر دون العمل على تبليغه للجمهور اعتمادا على العرض المسرحي؟
السؤال هنا يضعنا داخل إطار منهجي محدد، وهو تبيان حالات التماهي والتقاطع بين كلا الجنسين، شعر/مسرح لدى الإغريق تحديداً، ولأن المناسبة شرط كما يقال، أمكننا القول أن أولى تجليات أشكال المسرح الشعري الذي تكونت فيه الدراما أو بالأحرى صدرت عنه، كان مبعثها مجموع الطقوس الروحية والدينية السائدة آنذاك، بل يمكن الجزم أنه من التكوين الشعري للأغنية "الديونيزوسية" ( نسبة إلى إله الخمر اديونيزوس)، خرجت أولى أشكال المسرح الإغريقي والمسرح الشعري أساساً، مكونة بذلك علامة مهمة بين الشعر والمسرح، ثم إن خاصية هذا المسرح تنحصر في كونه ليس وليد حالة لغوية أو إيقاعية بحتة، بل هو أساساً وليد حالة شعورية ناتجة عن النشوة وتقلبات حالات التماهي بين الفرح والألم، إنها حالة فلسفية وجودية معقدة نوعاً ما، تأخذ من النشوة علامة لها، بل ومكوناً أساسياً في فهمها، لنتبين أن المسرح في أصوله كان باباً من الشعر. عرف مراحل ازدهاره بانجلترا وفرنسا حتى حدود القرن السابع عشر الميلادي، حيث كان المسرح يُكتب شعراً كما فعل في مسرحيته الشهيرة " جرجنوار" الشاعر الفرنسي " اتيودور بانفيل" (1886)شخصياً اشتغلت على بعض النصوص ذات النفحة أو الطابع المسرحي، لكن أعترف أنها تبقى محاولات خجولة، نظراً لغياب الشروط المنتجة لخوض غمار هكذا تجارب، أهمها على سبيل المثال لا الحصر، متغيرات العصر، والتقلبات الهائلة على مستوى المنتوج الفكري والثقافي التي لا تستجيب لمتطلبات المرحلة، ورهاناتها بالأساس، ثم إن المبدع عادة ما يؤخذ بالآني وينشغل به في حركية تحيينية متواصلة ودؤوبة لخاصية التغيير والتطور بمختلف أبعادها وحدودها الممكنة والمحتملة.