Tuesday 16 September 2025
جالية

مصطفى عنترة: المشاركة السياسية لمغاربة العالم.. مطلب وطني أم حسابات ضيقة؟

مصطفى عنترة: المشاركة السياسية لمغاربة العالم.. مطلب وطني أم حسابات ضيقة؟ مصطفى عنترة
من يقف ضد المشاركة السياسية لمغاربة العالم؟ ومن يعرقل تمثيليتهم في البرلمان، وتحديدا في مجلس النواب؟ أسئلة تتكرر مع كل محطة سياسية، لكنها تظل بلا جواب مقنع، رغم أن جلالة الملك محمد السادس سبق أن دعا بوضوح، في خطاب تاريخي سنة 2005 بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء، إلى ضرورة تمتيع مغاربة العالم بحقوقهم السياسية كاملة، بما في ذلك حق الترشح والتصويت من بلدان الإقامة، واعتبر أن إشراكهم "أمانة وطنية ومسؤولية ديمقراطية" لا تحتمل التأجيل. هذه المفارقة بين الخطاب المرجعي والإرادة الملكية المعلنة من جهة، والواقع الذي يكرس الغياب من جهة أخرى، تجعل الموضوع اليوم أكثر إلحاحا وإثارة للنقاش.
 
الجالية المغربية بالخارج تمثل قوة اقتصادية حقيقية لا يمكن إنكارها. تقارير "بنك المغرب" تشهد على ذلك و تكشف بوضوح حجم التحويلات بالعملة الصعبة التي تشكل موردا أساسيا للاقتصاد الوطني، إلى جانب دورهم في تنشيط قطاعات حيوية كقطاع السكن والاستثمار. هذه الأرقام تجعل من مغاربة العالم شريكا لا غنى عنه في التنمية الاقتصادية للمغرب.

لكن قيمة الجالية لا تقف عند حدود الاقتصاد. فهي أيضا قوة سياسية يمكن أن توظف في خدمة القضايا الوطنية الكبرى. في ظل التحديات المتواصلة التي يواجهها المغرب، سواء على مستوى قضية الصحراء المغربية التي دخلت منعطفا جديدا بفعل متغيرات دولية متسارعة، أو على مستوى خصوم التجربة الديمقراطية الذين يحاولون ضرب كل المكتسبات التي تحققت في هذا الشأن، فإن إشراك هذه الفئة في صناعة القرار السياسي يعزز جبهة الدفاع عن مصالح الوطن ويدعم مؤسساته وسيادته.
 
إلى جانب ذلك، يشكل مغاربة العالم قوة تكنولوجية وعلمية هائلة. الآلاف من الكفاءات المغربية تتواجد في الجامعات الكبرى ومراكز البحث العالمية ومؤسسات التفكير (Think Tanks)، حيث تنتج المعرفة وتبتكر الحلول في مجالات التكنولوجيا الحديثة... هذه المادة الرمادية ثروة وطنية هائلة ينبغي استثمارها، لا أن تظل خارج الفعل السياسي الوطني.
 
من جهة أخرى، يتمتع أفراد مغاربة العالم بحضور اجتماعي ورمزي معتبر في الدول التي يقيمون فيها. فقد نجح العديد منهم في الوصول إلى مناصب برلمانية ووزارية أو مواقع مؤثرة في المجتمع المدني والأكاديمي... هذه المكانة يمكن أن تكون رافعة دبلوماسية ناعمة يستفيد منها المغرب إذا ما أُحسن إدماجها في استراتيجيته الوطنية. كما أن الجالية تحمل أيضا قوة ثقافية وقيمية تعكس الحداثة والمواطنة والتعددية والديمقراطية، وهي القيم نفسها التي يسعى المغرب جاهدا إلى ترسيخها داخليا.
 
أمام كل هذه المقومات، يظل سؤال الغياب السياسي لمغاربة العالم مطروحا بإلحاح. فبينما اختارت دول مجاورة أن تمنح جالياتها حق التصويت من الخارج وتمثيليتها في برلماناتها، ما يزال المغرب مترددا في تفعيل هذا الحق، رغم أنه يتوفر على جالية تفوق ستة ملايين نسمة موزعة على أكثر من مئة بلد. فهل المشكل في غياب الإرادة السياسية؟ الجواب: لا. لأن أعلى سلطة في البلاد عبرت بوضوح عن هذا الخيار منذ خطاب 2005، كما أن أغلب الأحزاب السياسية لا تمانع في ذلك، بل ضمت مقترحاتها بهذا الشأن إلى مذكراتها الموجهة لوزارة الداخلية تحضيرا للانتخابات التشريعية المقبلة 2026، إضافة إلى أن دستور 2011 في فصله السابع عشر متع مغاربة العالم بحقوق المواطنة كاملة.
إذن، من يعطل المسار؟ هل هي حسابات ضيقة لبعض النخب التي تخشى من ظهور قوة انتخابية حاملة معها افكارا وسلوكيات وقيم جديدة ؟ أم أن السبب في البيروقراطية وتعقيدات تنظيم الانتخابات بالخارج؟ أم أنه القصور التشريعي الذي لم يضع بعد الآليات القانونية الكفيلة بضمان تمثيلية فعلية وعملية لمغاربة العالم؟
 
الجواب ليس بسيطا، لكنه واضح: لا يمكن أن يظل مغاربة العالم خارج اللعبة السياسية. مشاركتهم ليست هبة، بل حق دستوري ومطلب وطني تدعمه الشرعية الملكية منذ خطاب 2005 وتزكيه مصلحة المغرب في حاضره ومستقبله، وينص عليه أسمى قانون بالمملكة. إنهم شركاء في التنمية بما يقدمونه من تحويلات مالية واستثمارات، ونحن نسعى إلى جعلهم أيضا شركاء في ترسيخ الديمقراطية، وفي بناء دولة الحق والقانون والمؤسسات. 
 
وتجسيدا لهذا التوجه الذي اسس له الخطاب الملكي سنة 2005، تم الإعلان عن أربعة قرارات أساسية ومتكاملة:
أولا: تمكين المغاربة المقيمين بالخارج من تمثيلهم في مجلس النواب، على أساس معايير الكفاءة والجدارة والاستحقاق، وبكيفية تراعي الواقعية والعقلانية.

ثانيا: إحداث دوائر تشريعية انتخابية بالخارج، تمكن المواطنين المقيمين بالمهجر من اختيار نوابهم في الغرفة الأولى للبرلمان، باعتبارهم يتمتعون، على قدم المساواة، بالحقوق السياسية والمدنية المخولة لكل المغاربة.
 
ثالثا: منح الأجيال الجديدة من الجالية المغربية حق التصويت والترشيح في الانتخابات، تكريسا لمبدأ المساواة في المواطنة، وتوطيدا لارتباطهم بوطنهم الأم.
 
رابعا: إحداث المجلس الأعلى للجالية المغربية بالخارج، تحت الرئاسة المباشرة لجلالة الملك، بكيفية ديمقراطية وشفافة، لضمان المصداقية والنجاعة والتمثيلية الحقيقية.
 
وبذلك، يتأكد أن هذه القرارات لا تقتصر على البعد الإجرائي الانتخابي فقط، بل تنفتح على رؤية استراتيجية بعيدة المدى، تجعل من الجالية شريكا كاملا في مسار بناء دولة الحق والقانون والمؤسسات، وترسخ مساهمتها في التنمية والديمقراطية على حد سواء.
 
إن إدماجهم في المؤسسة التشريعية سيعزز التجربة الديمقراطية، ويوفر للبلاد سندا اقتصاديا وسياسيا وثقافيا إضافيا، ويبعث برسالة قوية للعالم بأن المغرب يسير بثقة في مسار تحديث مؤسساته.
 
قد يكون السؤال الأهم اليوم ليس: من يقف ضد المشاركة السياسية لمغاربة العالم؟ بل: هل نملك الشجاعة السياسية لنحول الإرادة المعلنة إلى قرار سيادي نافذ، يضع مغاربة العالم في المكانة التي يستحقونها، شريكا فاعلا في النموذج الجديد على مستوى التنمية والديمقراطية.
مصطفى عنترة، باحث جامعي.