تُشكّل البيعة في التجربة المغربية مكونًا جوهريًا من مكونات المرجعية الدينية والسياسية للدولة، بوصفها عقدًا شرعيًا يجمع الأمة بإمامها، ويؤطر العلاقة بين الراعي والرعية ضمن مقتضيات الشرع ومقاصده. وقد تكرّس هذا المبدأ في بنية الدولة المغربية منذ نشأتها، وتعزّز مع تنصيص الدستور المغربي لسنة 2011 على إمارة المؤمنين كإطار ناظم للهوية الدينية والسياسية.
ويأتي عيد العرش في طليعة المناسبات الوطنية التي تُجسد هذا الرابط المتجدد بين الأمة وقيادتها، في صورة رمزية جامعة، تعبر عن تلاحم ماضي المغرب بحاضره، ومصداقية رابطة البيعة ضمن منظور شرعي مقاصدي متين.
أولا: البيعة في الفقه الإسلامي وتجلياتها في النموذج المغربي
البيعة، لغةً، هي المعاهدة والمبايعة على الطاعة، وشرعًا عقد يُبرم بين الأمة وإمامها على السمع والطاعة في المعروف، كما جاء في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه:" بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا..." (رواه البخاري، رقم: 7056).
وقد اعتبر الإمام الماوردي أن: "البيعة هي العقد الذي يُقام به الإمام مقام النبي ﷺ في حراسة الدين وسياسة الدنيا" (الأحكام السلطانية، ص: 5.
وفي السياق المغربي، حملت البيعة خصوصية مزدوجة، شرعية وسياسية، إذ ترتبط بإمارة المؤمنين من جهة، وبوحدة الأمة وشرعية الحكم من جهة ثانية، وهو ما يؤكده الفصل 41 من الدستور المغربي:" الملك، أمير المؤمنين، وحامي حمى الملة والدين، يضمن حرية ممارسة الشؤون الدينية، ويرأس المجلس العلمي الأعلى...".
وقد شدد الدكتور أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، على هذا البعد الشرعي، بقوله:"البيعة في المغرب ليست طقسًا سياسيا شكليًا، وإنما هي تعبير عن ميثاق ديني ووطني، يتجدد بموجب إمارة المؤمنين، بوصفها نظامًا أصيلاً لصيانة الدين وتحقيق مقاصده في الأمن والوحدة والعدل" (البيعة والخلافة في التاريخ الإسلامي، ص: 211).
ثانيًا: عيد العرش في ضوء المقاصد الشرعية
من المعلوم أن عيد العرش، وإن بدا في ظاهره مناسبة وطنية احتفالية، إلا أنه في جوهره مناسبة شرعية مقاصدية، لما ينطوي عليه من دلالات سامية تتصل بمقاصد الشريعة الكبرى:
- حفظ الدين: لأن إمارة المؤمنين تمثل الضمان المؤسسي لصيانة الثوابت الدينية، وفق مذهب الإمام مالك، وحماية الأمن الروحي للمغاربة، كما يبرز من خلال إشراف الملك محمد السادس، على المجلس العلمي الأعلى والمؤسسات الدينية.
- حفظ النفس والوحدة: حيث يجسد العرش رمز الاستقرار، ويضمن وحدة الأمة المغربية تحت راية إمام شرعي.
- حفظ العقل: لأن من نتائج الاستقرار والشرعية انتشار العلم، وبسط هيبة العلماء، وتنظيم الحقل الديني، مما يمنع الغلو والانحراف.
وقد أشار المجلس العلمي الأعلى في إحدى رسائله التوجيهية إلى أن:" عيد العرش مناسبة دينية وطنية جامعة، تتجدد فيها معاني الوفاء لميثاق الأمة، وتُستحضر فيها نِعم الله على هذه البلاد، وفي طليعتها نعمة الأمن تحت إمارة المؤمنين" (الرسالة العلمية للمجالس العلمية المحلية بمناسبة عيد العرش، يوليوز 2022).
ثالثًا: الطابع الشرعي لمؤسسة إمارة المؤمنين وتجديد البيعة
تتميز البيعة في المغرب بأنها ليست مجرد عرف سياسي، بل هي عقد شرعي موثق، يتم تجديده سنويًا في عيد العرش، وذلك انسجامًا مع مفهوم البيعة المتجددة في الفكر الإسلامي، وهو ما يعكسه قول الإمام النووي: رحمه الله حين قال :"كلما تجدد للإمام أمر أو كان من المصلحة أن تتجدد له البيعة جاز ذلك " ( شرح صحيح مسلم، ج 12، ص: 233).
ويُؤكد الدكتور أحمد التوفيق في محاضرة علمية أن:" عيد العرش هو لحظة استحضار لمسؤولية إمارة المؤمنين، ولحظة تجديد للتعاقد الشرعي بين الأمة وملكها، لا سيما في ظل التحديات الفكرية والدينية التي تحتاج إلى مرجعية موحدة" (محاضرة بالمجلس العلمي الأعلى، الرباط، 2020)
خاتمــــــة
إن البيعة وإمارة المؤمنين ليستا من قبيل الأعراف السياسية المجردة، وإنما هما ثابت من ثوابت الأمة المغربية، وركن من أركان مشروعها الحضاري، المتجدد عبر الأزمنة. ويأتي عيد العرش المجيد ليعيد للأذهان هذا الرباط المتين بين الشرعية الدينية والهوية الوطنية، وليُذكّر الأمة بمسؤولية الحفاظ على وحدة المرجعية، وتماسك الصف، والتشبث بنعمة الاستقرار، تحقيقًا لمقاصد الشريعة في الإصلاح والعمران.
د، محمد بونعناع، عضو المجلس العلمي المحلي لطانطان