Monday 9 June 2025
كتاب الرأي

عبد السلام بنعبد العالي: حق الأقوى.. تفكيك وهم التقابل

عبد السلام بنعبد العالي: حق الأقوى.. تفكيك وهم التقابل عبد السلام بنعبد العالي

لطالما جرى تصوير "الحق" و"القوة" كمفهومين متضادين: الحق كرمز للعدالة والشرعية، والقوة كرمز للعنف والغلبة. لكن هذه الثنائية قد تخدعنا إذا اعتبرناها نهائية أو طبيعية. فما إن نمعن النظر، حتى تتكشف لنا حركة أعمق، حيث ينزلق كل طرف من طرفيها نحو الآخر، ويتغذى منه، ويعيد تشكيله.

 

فماذا لو حاولنا تفكيك هذا الثنائي، أي أن نثبت أن كل طرف من طرفيه هو الآخر ذاته في اختلافه وتباينه. يتعلق الأمر إذن بإعادة النظر في مفهوم "الحق" كمعطى أخلاقي معزول عن القوة، ذلك المفهوم الذي يجعل الحق "موجودا في ذاته"، فوق التاريخ، وفوق المصالح، وفوق الصراعات. ولعل نظرة أكثر تاريخية وتفكيكية ستكشف لنا أن الحق والقوة ليسا ضدين، وأنهما يتنازعان موقعا واحدا: موقع من يحق له أن يفرض المعنى؟ أو بعبارة أخرى، كل حق هو دائما قوة معلنة، وكل قوة تسعى لأن تكتسب شرعيتها كحق.

 

لننظر، على سبيل المثل، إلى العبارة المتداولة: "سلاح الكلمة"، فإننا نجد فيها تداخلا لافتا: الكلمة التي هي رمز الفكر والحق والمنطق تُصاغ هنا كسلاح، أي كرمز للقتال والقوة والهيمنة. فهل يعني ذلك أن الكلمة تفقد "طهارتها الأخلاقية"؟ أم أن القوة ليست حكرا على العنف المادي، بل لها تجليات رمزية، لغوية، قانونية؟

 

تبرير القوة

كل كلمة تحمل في طياتها إرادة تأثير، إرادة سيطرة، إرادة إقناع، أي "إرادة قوة". في هذا المعنى كان الماركسيون يتحدثون عن "سلاح النقد ونقد السلاح". إذا كانت الكلمة نفسها تنطوي على إرادة تأثير، فإنها لا تُستعمل كحق بريء، بل كأداة صراع. الكلمة قوة، لا لأن فيها عنفا، بل لأنها تمتلك قدرة على التوجيه، والإقناع، والسيطرة الرمزية. على هذا النحو، يمكن القول إن الحق نفسه يُمارَس كقوة، حتى إن لم يكن ماديا. إنها قوة الخطاب، قوة القانون، قوة التبرير، قوة الهيمنة الرمزية. لكن في المقابل، لا توجد قوة عارية. فكل قوة وسلطة، كي تُمارَس بفعالية، تحتاج إلى تبرير، إلى شكل من أشكال "الحق"، أو، كما يقال عادة، إلى مشروعية. فحتى الأنظمة الاستبدادية لا تقول: "نحكم لأننا نملك السلاح"، بل تقول: "نحكم لأننا نحمي الأمن، أو نحافظ على الاستقرار، أو نمثل إرادة الأمة". القوة تسعى دوما لأن تغلف نفسها بشرعية، والشرعية ليست سوى إعادة تقديم القوة في هيئة حق.

 

من هنا، لا يكون الحق في مواجهة القوة، بل في قلبها. كل قوة تسعى لتبرير نفسها عبر حق ما. وكذلك، كل حق يسعى ليمارس نفسه كقوة فاعلة. لا تُفهم القوة إلا عبر الخطابات التي تشرعنها، وتغلفها بمصداقية قانونية. في هذا السياق، يمكننا قراءة السياسة، والقانون، والإعلام، وحتى الدين، كميادين تتقاطع فيها القوة والحق، دون أن نستطيع الفصل بينهما بشكل حاسم.

 

على هذا النحو، فلعل من الأفضل ألا نتحدث عن "الحق والقوة" كثنائية، بل كـ"ديناميكية مزدوجة"، حيث يسعى كل طرف لاختراق الآخر، وتلبس معناه: القوة تسعى لأن تُرى كحق، والحق يسعى لأن يُمارَس كقوة.

 

بنية مزدوجة

قبل الهروب السريع نحو المناشدة الأخلاقية التي غالبا ما يلتجئ إليها البعض عند مواجهة مسألة "القوة والقانون"، علينا أن نسائل البنية المزدوجة التي تجعل من القانون ذاته شكلا من أشكال القوة، إن لم يكن أذكاها وأشدها استقرارا. فبدل أن نضع "القانون" أو "المشروعية" في مقابل "القوة"، وكأن الأول طاهر أخلاقيا والثاني مدنس عنفا، لنسلم منذ البداية أن القانون ليس نفيا للقوة بل إعادة تنظيمها، إعادة ترميزها، وتحويلها إلى نسق دائم. من هنا، فإن الدعوة إلى سيادة القانون، دون مساءلة بنيته كأداة سلطة، تتحول من مقاومة للظلم إلى تبرير خفي لنظام الهيمنة. وهكذا نظل نتأرجح بين تأكيد أن القانون قناع حق، والذهاب إلى القول إنه تكنولوجيا للقوة.

 

في كثير من النقاشات الفلسفية والسياسية، حين تشتد المواجهة بين الظلم والمقاومة، بين القهر والمشروعية، يُستدعى القانون كملاذ أخلاقي فيفرغ من بطانته "المادية". ويُقال: "لنحتكم إلى القانون"، "لنعد إلى دولة الحق"، "يجب أن يسود منطق المؤسسات". لكن ما يُغفَل -عمدا في كثير من الأحيان-هو أن القانون لا يقف خارج ساحة القوة، بل هو أسلوبها الأكثر تطورا. فكما يقول ميشال فوكو، السلطة لا تمارس نفسها فقط عبر القمع، بل أيضا عبر الإنتاج والتنظيم والانضباط. والقانون هو الآلية التي تجعل هذه السلطة شرعية، مرئية، وعقلانية. فلا يمكن القانون أن يكون أداة لـ"الحق" إلا إذا أصبح أداة فعالة لمأسسة القوة وتبريرها. وحتى عند أصحاب نظريات "العقد الاجتماعي"، عند هوبز أو روسو على سبيل المثل، فإننا لا نحيد عن هذا المنطق: الناس يسلمون حقوقهم لقوة مركزية لا لأنها أخلاقية، بل لأنها أكثر قدرة على فرض النظام وضبط العنف. القانون إذن ليس هروبا من القوة، بل ترجمتها في شكل يمكن قبوله اجتماعيا.

 

وعلى رغم ذلك، فحين تُطرح مسألة "حق الأقوى"، غالبا ما تُقابل برد فعلٍ أخلاقي سريع ودعوة إلى سيادة القانون، تحقيقا للمشروعية، ورغبة في الفصل بين "الحق المجرد" و"القوة العمياء"، ومناشدة أصحاب القوة أن يتخلوا عن "قوتهم" أو أن يهذبوها. عيب كل هذه المواقف في نظرنا هو أنها تفترض أن هناك مجالا "نقيا" للحق، خارج التاريخ والصراع، وهي تتناسى أن كل حديث عن الحق هو أيضا مطالبة بالسلطة، كما أنها تتجاهل أن القانون ذاته لا ينجح إلا لأنه يمتلك أدوات قسرية كالردع، والعقاب، والاحتكار الرمزي. وهكذا، فإن كل من يدعو إلى تغليب القانون دون وعي بهذه الآلية، لا يفكك الإشكال بل يعيد تغليفه، ويعيد إنتاج الثنائية ذاتها التي نحتاج إلى مساءلتها، فيساهم في إعادة إنتاج القوة لكن بلغة ناعمة، لغة تبدو محايدة، بينما هي محملة إرادة الهيمنة.

 

القانون والقوة

ذلك أن القانون لا يواجه القوة، بل يجسدها حين تنضج. فنحن لا نحتكم إلى الحق ضد القوة، بل إلى قوة تكتسب وجاهة لأنها نُظمت، ودونت، وأُلبست لباس الحق. لهذا السبب، فإن الهروب نحو الأخلاقيات المجردة غالبا ما يحجب حقيقة السلطة بدلا من كشفها. فليس المطلوب "تغليب الحق على القوة"، بل تفكيك المعادلة التي تجعل من كل حق شكلا من أشكال القوة المؤجلة.

 

ذلك أن ما يغفله الكثيرون عادة هو أن القانون لا يمثل تجاوزا للقوة، بل إعادة تنظيم لها كما أكدنا. إنه لا ينهي الصراع، بل يعيد ترسيمه ضمن قواعد مرئية. إنه يعقلن القوة ويؤطرها، لا لأنه ينتمي إلى عالم مفارق هو "عالم الحق"، بل لأنه أكثر فاعلية من القوة العارية. القانون لا ينهي العنف، بل يحتكره، وهو لا يلغي القوة، بل يعيد تقديمها كـ"شرعية". لذا فإن "النداءات القانونية" ليست براء من منطق القوة، بل إنها تمارس شكلا من أشكال السلطة الرمزية، و"الهيمنة الناعمة" التي تعتمد الإقناع والاحتكار الرمزي للشرعية.

 

يقودنا تفكيك الثنائي إذن ليس نحو تمجيد الحق على حساب القوة، وإنما نحو "وعي مزدوج" بأن الحق ليس دائما عدالة، بل قد يكون مجرد تسويغ لما فُرض "أمرا واقعا"، وكذا بأن القوة ليست دائما عنفا، بل أحيانا نقد وإقناع وصوغ للمعايير و"فضح للزيف". في هذا الصدد لا بأس أن نعود إلى مفهوم "إرادة القوة" كما هو عند نيتشه، ذلك المفهوم الذي طالما أُوّل تأويلات مغرضة جعلت منه "رغبة في السيطرة"، وتوظيفا لمفهوم عن القوة يضرب بعرض الحائط كل مشروعية وكل أخلاق، هذا في حين أنه مجرد "مبدأ تفاضلي" يسمح بالتمييز بين قوى انفعالية نافية سلبية تكتفي بردود الفعل، وتقول لا للحياة، وقوى فعالة إيجابية تقول نعم للحياة، وتكشف زيف القيم التي غالبا ما تُلبِس العجز لباس الفضيلة، والظلم لباس العدالة، و"القيم السلبية" طابعا إيجابيا، فتضفي على "الرغبة في السيطرة" شرعية قانونية.

عن مجلة : المجلة