Thursday 5 June 2025
كتاب الرأي

أحمد المطيلي: لم أشاهد قط في حياتي ما شاهدته في مدينة خان يونس

أحمد المطيلي: لم أشاهد قط في حياتي ما شاهدته في مدينة خان يونس أحمد المطيلي
هذا ما أدلى به رفائيل بيتي الطبيب العسكري السابق للصحافي جان جاك بوردان على أثير إذاعة "سود راديو" عقب زيارته إلى مدينة خان يونس بقطاع غزة ما بين 22 يناير و6 فبراير 2024. تصريحه ذاك كان ولا زال من التصريحات النادرة لما حفل به من معلومات طبية وإنسانية دقيقة أدلى بها بكثير من الصدق والنزاهة وببالغ الحزن والتأثر. لقد حاول عبثا الدخول إلى قطاع غزة بصفته طبيبا منتميا إلى كثير من المنظمات الإنسانية غير الحكومية إلا أن طلباته رفضت رفضا قاطعا من سلطة الاحتلال الإسرائيلي. فهي تضيق الخناق على دخول الأطباء والصحافة الدولية إلى القطاع لمعاينة الأحداث ونقل أخبار الحرب الجارية منذ سابع أكتوبر. ولم يسبق له قط طيلة مساره المهني أن اضطر للتكتل ضمن خمسة عشر منظمة غير حكومية للسماح له ولزملائه بتقديم الخدمات الطبية للجرحى والمرضى من الأهالي في المنطقة. ولم يؤذن لهذا الطبيب بالدخول إلا بعد أن توسطت له إحدى الجمعيات الأمريكية لأداء واجبه المهني. في تصريحه هذا تحدث السيد رفائيل بيتي بكثير من الأسى والحرقة عما شاهده بأم عينيه من أهوال ومآس على أكثر من صعيد. فقبل وصوله إلى المستشفى الأوربي الواقع ما بين خان يونس ومدينة رفح وقعت عيناه على الألوف من الأشخاص الذين لجأوا إلى محيط المستشفى احتماء من البطش الإسرائيلي المتواصل. وما أن نزل هو والوفد المرافق له وعلم به أهل غزة حتى هرعوا إليهم لاستقبالهم بحفاوة بالغة وترحاب منقطع النظير بمجرد ما عرفوا بأنهم أطباء جاؤوا أخيرا لإسعافهم ومداواتهم. واستغربوا كيف مكنتهم السلطات الإسرائيلية من المجيء إلى المستشفى مع أن بقية المستشفيات بالقطاع لم تسلم من القصف والمحاصرة وحملات الاقتحام والتفتيش واحتجاز المرضى والطواقم الطبية على السواء. لقد هالته حالة الاكتظاظ الذي شمل معظم غرف المستشفى وردهاته ومداخله ومخارجه. فالمستشفى الذي يتسع لأربعمائة سرير يأوي حوالي تسعمائة مريض، ويستقبل كل يوم المئات من القتلى والجرحى والمرضى في حركة لا تهدأ، ولا يستطيع الأطباء أن يولوا هذا العدد الضخم من المصابين العناية اللازمة في سباق متواصل مع الزمن جراء القصف المتواصل. ويُقر هذا الطبيب بأن كل من وقع بصره عليه من الجرحى المصابين بطلقات نارية في الدماغ من القناصة الإسرائيليين كان يُترك للموت. وما أكثر حالات بتر أطراف الجرحى لقلة قاعات الإنعاش وانعدام المورفين لتسكين الألم ونفاذ الوقت ! بل كان الأطباء يجرون كثيرا من العمليات الجراحية للمرضى وهم مستلقون على الأرض لقلة الأسِرة ونقص المستلزمات الطبية. وأما ليلا فيسوء الأمر بعد أن تكتظ ردهات المستشفى ومداخله بالنازحين إليه احتماء من القصف الإسرائيلي المتواصل طوال الليل. فلا جرم أن تعم الفوضى ويسود التخبط في تقديم الخدمات الصحية للمرضى والجرحى ولعموم النازحين. ويؤكد أن ما شهده في غزة لم يشهده قط طوال مساره المهني خلال ثلاثين عاما لا في سوريا ولا أوكرانيا ولا التشاد. فالمرضى يتكدسون بالمئات على أرضية المستشفى ويؤتى بالقتلى لمعاينتهم وتقييد أسمائهم في السجلات الطبية فضلا عن النازحين أنفسهم الذين يأتون للتداوي من الأمراض والأوبئة المتفشية بسبب تراكم الأزبال وانعدام شروط النظافة لندرة المياه. وقد شاهد بأم عينيه حجم الدمار الذي أصاب الغزاويين في مساكنهم وأرزاقهم وأجسامهم وأرواحهم. ولم يتوان عن وصف أحوال الأهالي بأنهم في وضع غير إنساني بالمرة. فالطائرات المسيرة التي تصم الآذان لا تكف عن الحركة والتحليق ليل نهار والقصف لا يهدأ والأهالي يعانون الجوع والعطش وقطع الكهرباء وقلة الدواء إلا ما تجود به المنظمات غير الحكومية من معونات. هذا مع تكاثر الأوبئة وتراكم الأطنان من الأنقاض والأزبال والقاذورات والحشرات.
 
في تلك الأثناء كانت سلطات الاحتلال تهدد باقتحام مدينة رفح التي هُجِّر إليها سكان شمال غزة فكان الاستنكار وكان الاستنكار وكانت الإدانة والاحتجاج ولكن لا حياة لمن تنادي. في تلك الأثناء كانت صفة الإبادة قد بدأت تتردد باستحياء على ألسنة بعض أصحاب الضمائر الحية. وقد سئل هذا الطبيب الشهم عما إذا كان يوافق على وصف ما يحدث للشعب الفلسطيني في غزة بالإبادة فأجاب بحزم وبلا تردد : "لو قرر نتانياهو حقا الهجوم على رفح وأنتم ترون الوصف الذي أوردته... لأمكننا أن نحكم بأنه يرغب في تقتيل هؤلاء الأهالي" الذين أرغموا على النزوح إلى رفح بدعوى أنها منطقة آمنة مع أنها منطقة ضيقة للغاية ولا يمكن أن تتسع لإيواء قرابة مليون وأربعمائة أو يزيد من الفلسطينيين المهجرين من عدة أماكن من غزة. وأكد الطبيب في شهادته هذه ما خلص إليه الصحافي السيد جان جاك بوردان من أن لزعيم الوزراء الإسرائيلي "إرادة حقيقية في تقتيل الأهالي" بما يثبت صفة الإبادة في حق الشعب الفلسطيني.
 
هل يصدق أحد أن كل هذه الجرائم ارتكبت قبل أزيد من سنة وأربعة أشهر؟ لقد وصف ما حصل حينئذ في غزة بانها "كارثة إنسانية لا حد لها". منذ ذلك التاريخ تضاعف أربع مرات عدد الجرحى والقتلى من النساء والأطفال والأطر الطبية ورجال الصحافة وعمال الإغاثة والعاملين في المنظمات الحكومية وغير الحكومية. وأما المستشفى الأوربي فقد توقف عن العمل منذ يوم 13 مايو الأخير على إثر القصف الذي تعرض له على غرار جل المراكز الصحية بالقطاع. وبتعطله تعطلت كل الخدمات الطبية المتصلة بوجه خاص بمجال الجراحة العصبية ومرض القلب والشرايين وأمراض السرطان في غزة بكاملها. وقد اتضحت نوايا الطغمة الصهيوينة الحاكمة في تهجير سكان غزة والضفة الغربية إلى غير رجعة واحتلال كامل فلسطين. ترى ماذا كان بوسع هذا الطبيب وأمثاله أن يقول لو قُدِّر له أن يعود إلى غزة ثانية ليعاين ما حصل وقد أمعن أبو النتن وزبانيته في إهلاك الحرث والنسل ضربا وتجويعا وتقتيلا غير مراقبين إلّاً ولا ذمة ؟ ألا إنها "الفاجعة المطلقة" كما قال بيير فيليو صاحب كتاب "مؤرخ بغزة" !