Tuesday 13 May 2025
منوعات

عبد الواحد الفقيهي: القلة.. إناء يسكنه الطين وتغلفه رائحة الزمن

عبد الواحد الفقيهي: القلة.. إناء يسكنه الطين وتغلفه رائحة الزمن القلة، ليست مجرد وعاء، بل ذاكرة طين حية
ما كانت القلة مجرد وعاء للماء. كانت جسدا من طين حي، تدهن بالقطران، وتحمل رائحة عتيقة توقظ المرضى، وتبعد الحشرات التي تهاب سحرها الأسود الخفيف.
في القلة، لا يسكب الماء كما هو، ولا يخرج كما دخل. يتغير طعمه، ورائحته، وقوامه...كأنه يمر عبر مصفاة سرية تنتمي إلى الأرض.
نملأها. نشرب ونرتوي منها. نسقي بها. ننتعش بقربها. توضع في الأركان الباردة من البيت...وحين يكتمل برد الماء داخلها، تبدأ جدرانها بفرز ندى رطب، كأن القلة تتنفس وتعرق وتمنحنا شيئا من روحها.
لم يكن الماء الخارج منها عاديا. كان فيه طعم طين خفيف، ونكهة ظل صامت، وصوت رنين غريب حين تفرغ...صوت من بقي فيه أثر من العالم السفلي للعناصر الأربعة.
القلة كنا نستعمل في حضرتها كل الحواس: 
بالعين وهي تلمع في الزاوية
باليد وهي تبرد عند الملمس
بالأنف وهو يلتقط رائحة القطران
باللسان وهو يتذوق الماء العذب
بالأذن وهي تسمع رقرقة السكب
وبالحاسة السادسة أيضا، حين يشعر القلب أن الماء عاد إلى أصله. 
بجوار القلة...غراف طيني رفيقها، وابن طينتها وعشيرتها. يتنقل معها. يغرف لها. ويحفظ سرها. مثل أخ صغير يحتضن السر الكبير.
وفي رمضان، تصبح القلة جزءا من طقس الروح. لا يكتمل إفطار ولا سحور دون رشفات منها. نحمل الغراف بعناية. ونرتشف الماء منه قطرة قطرة. كأنك تشرب من ذاكرة الأرض لا من فم القلة.
يكتبون ويحكون منذ سنوات أن القلة تعيد لماء الأنابيب صفاءه القديم، وكأن الطين السحري ما زال يحتفظ بسر الطبخة الأولى، حين كانت الأرض تسقي أبناءها ماء طاهرا دون وسائط.
القلة لم تكن تحفظ الماء فقط. كانت تحفظ علاقتنا بأصل الأشياء، بالينابيع الأولى، بالظل، وبالحنين الذي لا يختصر في كأس.