Saturday 10 May 2025
منوعات

عبد الواحد الفقيهي: الزلافة.. إناء القرب ومرايا النكهة

عبد الواحد الفقيهي: الزلافة.. إناء القرب ومرايا النكهة في رمضان، تصبح الزلافة سيدة المائدة
في زاوية مضيئة من المطبخ التقليدي، تقف الزلافة، ساكنة وهادئة، لكنها مفعمة بالدفء والذكريات. ليست مجرد وعاء، بل مساحة للذاكرة، وحكاية تتكرر مع كل وجبة. إنها مرآة صغيرة تعكس طقوس العائلة، وتعيد رسم خريطة النكهات التي تنساب من جدرانها المشققة.

اسم الزلافة ليس مجرد صدفة، فهو مشتق من الجذر العربي "زلف"، بمعنى القرب والاقتراب. في اللغة، يقال: "زلف الكأس" أي قربه، و"أزلفت الجنة للمتقين" أي قربت. وهذا القرب لم يكن فقط قربا ماديا، بل قربا نفسيا وروحيا، حيث يجتمع الجميع حولها، تتلاقى الأيدي وتتقاطع النظرات.
 
في رمضان، تصبح الزلافة سيدة المائدة، ورفيقة الإفطار التي لا تغيب. تسكب فيها الحريرة، بجانب الشباكية والتمر، وتطفو قطع الحمص في سطحها الدافئ. طعم الحريرة في الزلافة مميز، حيث يمتزج كل شيء بالكرفس، والبهارات بالحب، وكل رشفة منها تشعر الصائم بالسكينة.
 
لكن الزلافة لم تكن حكرا على رمضان. في صباحات الشتاء الباردة، كانت تحمل إلى البيصارة، وفي الأمسيات القروية كانت تغمر بالدشيشة الساخنة، تظل دائما ساحة للتقاسم والدفء، مهما تغيرت المكونات. كانت تشرب مباشرة أو بالملعقة الخشبية، ويتكامل الذوق بالنكهة.
 
في أعماقها، يحتفظ الطين برائحة الأرض، ويمنح الماء طعمه الخاص، وكأن الزلافة ليست فقط إناء، بل حوضا صغيرا زاخرا بالمذاق والحكايات. خدوشها تحمل قصص الأيادي التي غسلتها، والضحكات التي ترددت حولها.
 
الزلافة ليست فقط طينا مر من الفرن، بل هي ذاكرة العائلة، وسيدة القرب. هي إناء بسيط يتجاوز وظيفته، ليصبح مرآة للعلاقات، وجسرا بين الأجيال، ووعاء يحتفظ بملح الحياة وسكرها.
 
وللزلافة أصناف وأنواع، بعضها مصنوع من الطين، يمتص حرارة الحساء، ويشرب منه دفء الذكريات، وبعضها من الخزف المطلي بالألوان، يحمل على حوافه نقوش الزخارف التقليدية، وكأنه لوحة معلقة على المائدة.
 
حتى في المدن الكبرى، حيث الأطباق الزجاجية والبلاستيكية، تبقى الزلافة حاضرة، تتوارثها البيوت، وتحفظ في خزائن الذكريات. وربما نعيد إخراجها في المناسبات، أو نستحضرها حين نشتاق لطعم الحريرة الذي يشبه حضن الجدة.
 
الزلافة هي الأمس الذي يعاد كل يوم. هي الطين الذي صار ذاكرة، والماء الذي صار روحا، والنار التي لم تحرق بل أدفأت. هي تلك المساحة التي تجتمع فيها الأذواق، وتتقاطع فيها الأرواح، وتنسج فيها الحكايات.
 
أيها الطين المنقوش بملح الحياة، مرآة المائدة وسيدة الزمان البطيء، ابقي حيث أنت، شاهدة على طقوس القرب، وحافظة لأسرار النكهة.