Friday 9 May 2025
كتاب الرأي

إدريس الاندلسي: الجزائر والتاريخ وسراب المحيط الأطلسي

إدريس الاندلسي: الجزائر والتاريخ وسراب المحيط الأطلسي إدريس الأندلسي
وجب الاعتراف بأن قراءة تاريخ الجزائر بعد الانقلاب على أول رئيس "مغربي" لهذا البلد، الذي هو جزء منا ثقافةً وجذورًا وتراثًا وعاداتٍ وتقاليدَ، تخضع لمنطق العاطفة ولصنع آليات السلطة والتحكم في المؤسسات في منطقتنا المغاربية.

لا يجب أن ننسى أن مغاربة كانوا في صف حكام الجزائر الجدد لأسباب متعددة، وكان بعضهم يتقاضى أجرًا يضاهي أجر رئيس الجزائر بن بيلا. ولا يجب أن نتناسى أن الاستعمار الفرنسي كان الداعم الأساسي لفرقة (بالضمة على الفاء) مناسبة لتصوراته في كل من المغرب والجزائر.

توارت عن المشهد كل القيادات الفعلية التي صنعت "مجد" الثورة ضد الاستعمار الفرنسي. ركب الكابرانات، الذين صنعتهم فرنسا، السيارة الرسمية التي أقلتهم من وجدة إلى قصور الحكم التي كانت بأيدي المستعمر في الجزائر. سكنوا هذه القصور وقرروا باسم شرعية غير شرعية اغتيال مجاهدي الجزائر الحقيقيين. حصلوا على السلاح في المغرب وتونس، وقاموا بتخزينه وعدم تسليمه للثوار، وقرروا استعماله بعد "الاستقلال" ضد من قاوموا وصنعوا الأمجاد في الأوراس وكل البؤر الثورية.

أصرت قوى الاستعمار على تحويل طالب أزهري كان اسمه بوخروبة إلى زعيم يمسك بزمام الأمور، بما في ذلك السيجار الكوبي والقرار الاقتصادي والفوضى المالية. رحل دون أن يُحاسب على فشل سياساته الاقتصادية. رحل معه من أغدقوا على ذريتهم ملايير البيترودولار وأسكنوها أجمل الشقق في أوروبا وأمريكا. ولا زال أصحاب القرار في القرار حتى بلغوا أقصى درجات العمى بفعل الظلام، ولازال شعب الجزائر في قرار، وفي عمق الغياب.

أصبحت الأولوية لدى الانقلابيين ومغتالي قادة الثورة الحقيقيين صنع عدو خارجي لخداع شعب الجزائر. ولأن أمريكا بعيدة، ولأن ألمانيا وفرنسا والهند واليابان توجد في أماكن لا تربطها بالجزائر حدود أو ماضٍ مشترك أو ثقافة، فقد قرر كابرانات فرنسا إلهاء الشعب بصنع عدو يوجد في الجوار.

وهكذا نجحت فرنسا في تطويع أبنائها في الجزائر وتحويل أنظارهم العدائية إلى من ساندهم بالمال والسلاح بكرم وسخاء والتزام. صنعت لهم فرنسا حدودًا على حساب كل دول جوارهم، فتصرفوا بمنطق فرنسا، وخانوا العهود.

وتغيرت المعطيات بعد 60 سنة. تحول المجاهد، والشهيد الذي لا زال حيًّا يُرزق!!!، إلى فاعل اقتصادي وتاجر وخبير في سوق الأسلحة الفاسدة، يكتب تاريخ بلاد بالدم، باسم محاربة إرهاب مصنوع في أقسام المخابرات، ليصل إلى حضيض لا يُحسد عليه.

والأهم في الموضوع هو شعب الجزائر الذي تم اغتيال طموحاته في العيش الكريم. ولا زالت أرض الجزائر تنتج خيرات كبيرة لم تصل آثارها لتجعل من المواطن الجزائري كائنًا يعيش في نفس مستوى المواطن السعودي والقطري والإماراتي وغيرهم.

تعبت الجزائر كثيرًا جراء طموحات طبقة سياسية دخيلة على التاريخ والسياسة والأخلاق. فهمت فرنسا أن بقاءها في أرض ورثتها عن الإيالة العثمانية لم يعد ذا جدوى على المدى الطويل. فهم الجنرال ديغول أن هذا الحمل "من الأعباء ثقيل ومخيف" كما قال الشاعر مظفر النواب، وأن الاستمرار في تدبير إرث عثماني قد يغير كثيرًا من المعطيات الديمغرافية قد تصل إلى بلدته المسماة "كولمبي لي دو إغليز" إشارة إلى كنيستين. قال إنه لا يريد أن تتحول بلدته التي تعرف بكنيستيها الاثنتين إلى بلدة قد تصبح معروفة بمسجدين.

وقبل أن يتم اتخاذ قرار استقلال الجزائر، وترك الجمل بما حمل، قررت فرنسا أن تكلف بأمر تدبير أخطائها التوسعية، ضد ليبيا وتونس والمغرب ومالي والنيجر، بعض أطر الجيش الفرنسي الذين أحكموا قبضتهم على التركة التاريخية الفرنسية بالجزائر. اغتال هؤلاء أغلب قيادات الثورة، ونظموا الجنائز الوطنية، و"عقدوا العهد أن تحيا الجزائر". ترك لهم جنرالات فرنسا قصورًا وسلاحًا وقوات ردع، وكثيرًا من الشعارات. قتلوا كل الوطنيين وكان آخرهم المغدور "بوضياف" بعد "عميروش المناضل، والمحامي علي مصيلي الذي حلم بوطن حقوق الإنسان، ومحمد خيضر الذي كان ضحية غدر أبناء الاستعمار وعبان رمضان، وكريم بلقاسم، وكثير ممن سقط برصاص الكابرانات، أبناء خدام الاستعمار. وألقى المغدور بوضياف نظرة على فريق الاغتيالات قبل أن يسلم روحه لمن سيحاسب مهندسي الخيانات.

وهكذا تحول المواطن الجزائري الذي كان من المنتظر أن يكون من أغنى مواطني أفريقيا والعالم العربي، نظريًّا، بفضل خيرات بلاده من المعادن والبترول والغاز، إلى مواظب على كل مشاهد المعاناة المتمثلة في الطوابير من أجل أرز وزيت وحليب وسكن وأمن.

وقال كثير من مفكري الجزائر ووزرائها السابقين إن بلادهم تعيش أزمة تاريخية معقدة جدًا. قال أحد الوزراء إن الجزائر تعيش على هامش التاريخ، ولا قدرة لها على الإيمان الحقيقي بهوية وطنية لا توجد إلا في مخيلات من يسيطرون على القرار السياسي، وأموال بيع الموارد الطبيعية، ومن يمتلكون مفاتيح السجون، وأقنان الحسابات البنكية في سويسرا، ومفاتيح الدخول لكل الجنات الضريبية.

وظل أبناء فرنسا أوفياء لمن أرضعتهم كل قيم التنكر للتاريخ، والعيش على إنكار كل عمل ساند الأوفياء، من بينهم، على بناء وطن. ولكن دم المستعمر سرى فيهم مسرى السم في العروق.

نسيت قيادة الجزائر، بعد 1962، كل الصلات، وانصاعت لكي تسجد لصانعيها، ولكي تعيش في مستنقع الغدر. ولا زال الكابرانات ينهشون أجسامهم، ويلقون بعضهم البعض في سجون بناها الاستعمار لكي يمنحهم قدرة على تدميرهم لماضيهم بعنف تجاوز عنف فرنسا وملوك العثمانيين، ولم يفهموا حكمة المرابطين والموحدين وكل الشرفاء الذين عاملوهم بالحسنى وبكثير من الإيمان بالمستقبل المشترك حتمًا.

وهكذا سيستمر من لا زالوا يبحثون عن هوية، على مكان في التاريخ، وملجأ في صفحات الوثائق التي لم تثبت وجودًا لهم معترفًا به.

ولأن الفاقد للشيء لا يعطيه، تواصل مسلسل البحث عن هوية في تاريخ لا يعترف بالكراغلة الذين يعيشون على جغرافيا من صناعة عساكر فرنسا. ولتبديد الشك وجب اللجوء إلى الوثائق التاريخية الفرنسية التي كتبها من صنعوا الحدود واغتالوا العهود، ولم ينكروا أن بلاد المغرب تشهد عليها ثقافة معمارية وأرشيف يوثق حدودها وثقافتها منذ قيام إمبراطورية المرابطين والموحدين وبنو مرين والعلويين وكل من شهد بصدق تاريخي موثق على ما أحاط بحدود المغرب من سطوة استعمارية رسمت خارطة ارتضاها أبناء فرنسا الجزائريون الذين اغتالوا المجاهدين الحقيقيين.

وسيظل المتسللون إلى بيت التاريخ مجرد باحثين عن مكان في شرعية الزمان الحضاري الموثق بالفعل المعماري، وبالحضور العلمي.

وسيسجل التاريخ أن أموال الشعب الجزائري البترولية تم تسخيرها لخدمة أقلية لتشتري السلاح، ولتكون صندوق الرشاوي الفاعل في شراء بعض الأصوات داخل بعض المنظمات الدولية.

اندحر القرار بفعل فضائح محاولة إعادة صنع القرار. وضاعت أموال الشعب الجزائري الذي كان ولا زال، من حقه، أن يعيش في ترف مثل شعب الإمارات وكل دول الخليج.

حاولت طغمة الإرشاء، في قلب العاصمة الجزائرية، صنع قرار دولي يدين إرادة المغرب في الحفاظ على وحدته الترابية. حاولوا واجتهدوا وتمدد كرمهم الحاتمي إلى تمويل عمليات قمار عملائهم، من صحراويي المغرب المغرر بهم، في فنادق أديس أبابا ونيروبي. ولن أنكر شهادات من رأوا عن قرب إدمان هؤلاء على سهر مؤدى عنه.

القضية بالنسبة للجزائر حيوية، والأصل في تبنيها مصلحة عليا لن تتجسد إلا بالسيطرة على جزء كبير من الأراضي المطلة على المحيط الأطلسي.

توالت بعثات الأمم المتحدة وتبين بالملموس أن الجزائر لا تهتم بأي حل سلمي وواقعي لقضية الصحراء. واستمرت في مهاجمتها للتاريخ ولحق المغرب في وحدته الترابية.

وكان القرار المغربي هو دعمه لعمل الأمم المتحدة ولبعثة (المينورسو) "التي تسعى لإنجاح الجهود الأممية الرامية إلى حل سياسي لهذا النزاع الشائك والقائم منذ عام 1975، وذلك بإيجاد صيغة توافقية نهائية بشأن وضعية الحكم في المنطقة".

وصل يوهانس مانس، الدبلوماسي السويسري، الذي عينه الأمين العام خافيير بيريز دي كويلار كممثل خاص بتاريخ 29 أبريل 1990 وظل في هذه المهمة حتى ديسمبر 1991.
 
وتواصلت الجهود الأممية مع تعيين الباكستاني، صاحب زاده يعقوب خان، الذي عينه الأمين العام الأسبق الراحل بطرس غالي سنة 1992 كممثل له، وانتهت مهمته في غشت 1994.

ثم تم تعيين ممثل آخر إلى غاية 1997، الذي شهد عهده محاولة عملية "تحديد الهوية" والتي شهدت أيضًا رفضًا جزائريًّا لإحصاء الصحراويين، وأدت إلى تجميد عملية تحديد من له الحق في التصويت.

وجاء جيمس بيكر، صاحب المناصب الكبرى في حكومات أمريكية بين 1981 و1993، والذي قدم خطة للحكم الذاتي كتسوية للنزاع. وتكسرت خطة بيكر على صخرة "من له الحق في التصويت في الاستفتاء وعلى المعايير التي تحدد هوية المصوتين".

وتوالى مسلسل تسمية ممثلي الأمين العام للأمم المتحدة دون تسجيل أي تقدم. مر من هذا المسار بيتر فان فالسوم الذي حاول دون نتيجة تؤدي إلى تنظيم محادثات بين أطراف النزاع خلال الفترة الممتدة من 2005 إلى 2007.

وقد صرح فالسوم في 2008، عند انتهاء مهمته، أن "خيار الاستقلال الذي تطالب به البوليساريو خيار غير واقعي"، وأن خيار استفتاء تقرير المصير الذي طرح سابقًا "أمر تجاوزه الزمن".

ولم تستمع بعض الدول لهذا الرأي الحكيم الذي أصبح اليوم هو المشروع المقبول عالميًا.

وتبين لمجلس الأمن أن الجزائر صاحبة القرار في زمرة صنيعتها البوليساريو، لا تريد إلا حلًّا واحدًا يفضي إلى سيطرتها على الصحراء المغربية والولوج إلى المحيط الأطلسي.

وسيظل العدو الأكبر لمن يحكمون الجزائر، بدون شفقة على مقدرات شعبها، هو ذلك المشاغب الذي لا يستسلم لهواهم، لأنه التاريخ العنيد والذي يفضح من يحاول تزويره. ولهذا لا يمكن أن يتجه طغاة الجارة الشرقية إلا إلى ملاحقة السراب مهما تم تزوير المسببات والأسباب.