Thursday 1 May 2025
فن وثقافة

نادية كريمي: "أثر الطير" للكاتبة ثريا ماجدولين..رواية تتقصّى الجرح وتكتبه

نادية كريمي: "أثر الطير" للكاتبة ثريا ماجدولين..رواية تتقصّى الجرح وتكتبه غلاف رواية "أثر الطير"
بجرأة فنية وتاريخية، تلامس رواية "أثر الطير" لثريا ماجدولين، لحظات مفصلية في الذاكرة المغربية الحديثة، من انتفاضة 1984 إلى حراك 20 فبراير 2011، حيث تتردد الأحداث كأصداء مغمورة في أحلام مهشّمة، بين تردّد الشعارات، والتواطؤ الصامت، توثق البطلة فريدة، الصحافية المتمردة، تلك اللحظات الحارقة، ليس من باب الوقائع، بل من باب الصمت، كأنها تمشي على جمر الأسئلة، تنبش في الواقع كما لو كانت تحفر في لحمها الخاص، متوغلة في جذوره، ترصد تأثيره على الأفراد، وعلى صورة البلاد في ضمير مواطنيها.

وهي بذلك، تُعيد للواقع السياسي صوته الإنساني، وتُنزّل التاريخ من عليائه إلى الشوارع والمقاهي، إلى هموم الصحفيين الشرفاء، وصمت المقهورين. صحافية تمضي في كشف التصدعات الدقيقة خلف البلاغات الرسمية، وتزيل أقنعة السرد الجاهز، تكتب بالنبض والأسى ما لا تكتبه البيانات. كل ذلك يمرّ في الرواية كما تمرّ الطيور فوق سماء مُلبّدة، تاركة ما يشبه الأثر: شيء لا يُمسك، لكنه يُفهم.

الرواية ليست فقط عن امرأة تبحث في ملفات اختفت من التداول، بل عن الذات وهي تتفكك وتتشكل من جديد وسط هشاشة الواقع وانهيارات اليقين. ففريدة لا تسترجع ماضيها السياسي والعاطفي لتؤرّخ، بل لتسائل: ما الذي يبقى منا حين نكفّ عن مقاومة النسيان؟ وما الذي يصمد من الحقيقة حين تصير كل كتابة احتمالا آخر للتمويه؟
ماجدولين لا تكتب الرواية بوصفها سردا خطيا، بل ككتابة داخل الكتابة، حيث يتداخل الحلم بالوثيقة، ويتجاور الألم الشخصي مع جراح الوطن. تمارس اللغة نوعا من الهمس المتوتر، جملة لا تسعى إلى الإبلاغ، بل إلى الإنصات لما لم يُقل. ثمة لحظات تتخذ فيها اللغة ملامح ظلٍّ يعبر النص خفيفا، لكنه يترك أثرا لا يُمحى.
في علاقة البطلة بالحبيب الذي غادرته بحثًا عن طمأنينة لم تجدها، تتقاطع الهوية مع الفقد. الكتابة هنا ليست تطهيرًا، بل مقاومة ضد المحو، بحث في اللغة عما لا تستطيع السياسة قوله، وعما لا يقوله الحب صراحة. وفي ذلك تتحول أثر الطير إلى كتابة تشبه التنفس في غرفة بلا نوافذ: مكثفة، بطيئة، وضرورية.
تمضي الرواية في خطين متوازيين: خطّ عام يضيء فيه الجرح السياسي من الداخل، من الجامعة، من الشارع، من المقاهي، ومن نظرة متظاهر يتردد بين الأمل والخوف. وخطّ شخصيّ وجودي، تتعرى فيه البطلة أمام هشاشتها، وتعيد مساءلة الحب والخذلان والوحدة والنسيان... حيث يصبح السياسي مجرد خلفية للحب أو الفقد، يتشابك معه، داخل العزلة المختارة.
فريدة البطلة، امرأة تخلّت عن طمأنينة اليقين، وذهبت في تعقّب ما لا يُمسَك: الحقيقة حين تصير ظلّا، والهوية حين تتوزّع على أكثر من ملامح. تحاول أن تكتب عن وطن، عن رجل، عن ذاتٍ أخرى ربما لم تكن هي. وفي هذا السعي، تغدو اللغة رفيقة هشّة: لا تُفصح، بل تُشير. لا تؤرّخ، بل تسائل. وهي في كل هذا، ليست فقط "امرأة تحبّ"، أو "صحافية تكتب"، بل هي ذات يُعاد تشكيلها في العزلة وفي الصمت وفي الغياب.
وما يضفي على الرواية تلك الدهشة الضرورية في السرد الأدبي، لغتها التي جاءت مُتأنّية، مطرزة، مكتوبة بعناية، تنهل من بلاغة الشعر ومن حميمية الاعتراف. وهنا، لا ننسى أن ثريا ماجدولين هي شاعرة قبل أن تكون ساردة، وهي هنا لا تسعى إلى إبهار، بل إلى كشف داخلي قد لا تتيحه غير اللغة الشعرية. لذلك جاءت نبرة الرواية هادئة، رغم كونها مشبعة بالتوتر الداخلي، تُحاور القارئ كأنها تضعه في موقع الشاهد على انكسارات تتكرّر في صمتنا الجماعي.
ماجدولين في هذه الرواية، تفتح بوابات شكّ طويلة، وتتركنا على عتبة السؤال الأخير: هل الحقيقة ممكنة؟ أم أن كل كتابة ليست سوى محاولة للنجاة من شيء ما؟ في أثر الطير، تمنح ثريا ماجدولين للرواية وظيفتها الأعمق: ألا تكون فقط شهادةً على الزمن، بل صوتا من داخله. تُنصت للظل، وتمنح للكلمة أثرا يظلّ يحرّك الذاكرة.