الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

عبد الحميد العداسي: الخصوصيّات

عبد الحميد العداسي: الخصوصيّات عبد الحميد العداسي
لم تكن فترة وجودي بالمستشفى الاستعجالي في تلك النّاحية من العاصمة كوبنهاغن فرصة للتّفكّر في القلب فحسب، بل كانت كذلك سانحة للوقوف عند بعض المشاهد وملاحظة ما لم أتقبّله ولم أقو على فهمه ولا حتّى على تفهّمه...
معلوم أنّ مَن حاول انتقاد بعض المظاهر في المملكة الدّنماركيّة أو توقّف عندها بالملاحظة، سَمِع قول قائلِهم المتنمّر "الدّنمارك بلد ديمقراطيّ". كأنّه يقول: لا مجال لمن لم يكن "ديمقراطيّا" مثلنا لانتقاد ما يجري ويحدث في الدّنمارك، فالزموا حدودكم أيّها الوافدون الفارّون من بطش حكّامهم الظّالمين... كأنّه يعتقد أنّ كلّ ما يُؤتى من فعل أو قول أو يُقترف من السّلوك غير السّليم إنّما يتكلّم بلسان الدّيمقراطيّة "المبين"، الذي إن عُورض وُسِم معارضُه بالتّخلّف أو كان مخالفا ربّما لتوجّهات الأمّة الدّنماركيّة التي اختارت بالإجماع لنفسها هذا النّهج بعد أن بذلت فيه الأنفُسَ والأنفَسَ.
والحقيقة أنّ الدّيمقراطيّة رغم بعض الهَنَاتِ والمفاسِد التي سبّبها "الوطنيّون" أولو الحساسيّة المفرطة ضدّ الأجانب، قد خطت في الدّنمارك خطواتٍ إيجابيّةَ لا تُجرّئ بعض النّاس على انتقادها. والدّنمارك تطبّق بعض السّياسات الاجتماعيّة التي تذكّرنا نحن المسلمين بعدل عمر الفاروق رضي الله عنه وبمسيرة الإسلام إبّان قرونه الأولى، خاصّة فيما يتعلّق بالتّكافل الاجتماعيّ الذي قلّ مثيله في عالم اليوم... غير أنّ ذلك لا يعني بالمرّة أنّ كلّ ما يُرتكب فيها وكلّ ما يُتّبع بمنأًى عن الملاحظاتِ والتّقييماتِ التي ينشد أصحابُها للدّنمارك التّرقّي وإشاعة النّفع للنّاس كلّهم بدل الاقتصار أو الاكتفاء بشريحة معيّنة. فقد انضمّ اليوم إلى العديد الدّنماركيّ أناس جدد ذوو ثقافات مختلفة من شأنها إذا ما قُبِلتْ واحتُرِمتْ أن تُسهِمَ في صقل بعض ما غفل عنه التّطوّر السّريع الذي خرج بالمجتمع الدّنماركيّ بُعَيد الحرب العالميّة الثّانية من مجتمع محافظ أو شبه محافظ إلى مجتمع متحرّر أو شبه متحرّر من كلّ ما يربطه بنمط الحياة القديم، الذي كانت مرجِعيّته العائلة وتقاليد العائلة بما فيها من معانٍ لا يستقيم أيُّ مجتمع إلاّ بفقهها واتّباعها.
لقد كان وجودي في قاعة نوم اختلط فيها المرضى نساءً ورجالا صادما لي حقّا. فهو أمر إن قبله الدّنماركيّ الهارب من عاداته، لا يقبله أبدًا الدّنماركيّ الجديد الوافد صاحبُ الدّين ذو العاداتِ والتّقاليدِ، ولا يقبله كذلك الدّنماركيّ الأصيل الثّابت على العادات والتّقاليد. فإنّه لا تزال للمرأة خصوصيّاتُها كما لا تزال للرّجل خصوصيّاتُه. وأحسب أنّ مبدأ الاحترام المتبادل الذي نتكلّم عنه كثيرا في الدّنمارك يُلزمنا بالتّأكيد باحترام هذه الخصوصيّات، ولا سيّما أمر دمج الإناث مع الذّكور، فإنّه لم يأت في هذه الحالة استجابة لضرورة لوجستيّة أو لحاجة استعجاليّة فرضتها جائحة لا سمح الله، وإنّما جاء فيما أرى نتيجة سهو عن تلكم الخصوصيّات وعدم احترامٍ لها أو عدم احترام للوافد الجديد أو للدّنماركيّ الأصيل صاحب التّقاليد المانعة لهذا الخلط، أو جاء ربمّا نتيجة إصرار بعضهم على إرساء ديمقراطيّة متبرّجة لا تكون إلّا بإزالة تلكم الخصوصيّات، وهو لعمري تصوّر يحتاج، إن وُجد، إلى الإسراع بمراجعته، إذا كنّا في الدّنمارك حريصين حقّا على إدماج الوافدين وعلى الاستفادة من إضافاتهم، فإنّ السّلوك الذي لا يراعي الخصوصيّات واضع لا محالة العراقيل الكبيرة في طريق ذلك الاندماج الإيجابيّ الذي يُنتظر منه تنمّية المجتمع، وإنّه لَمِنَ العقل اجتناب كلّ ما يصدم الوافدين أو بعضهم فيكون سببا في ضرب إضافاتهم... قد ينكمشون فلا يظهرون جميع إمكانيّاتهم إذا ما وجدوا الوسط غير مناسب لإظهار إمكانيّاتهم، وهو ما قد يحرم الدّنمارك من استغلال كثير من الكفـاءات العالية المستعدّة للإسهام في خدمة المصلحة العــــامّة للبلاد.
نظرت في الدّيكتاتوريّة فرأيتُها أكثر مَن يستعمل المرأة واجهة تبرّر بها فسادَها وتغطّي بها على مظالمها. وحسبتُ أنّه لا ينبغي للدّيمقراطيّة أن تأخذ من الدّكتاتوريّة هذه الخَصْلة أو تشترك معها فيها، فتُفقد المرأةَ خصوصيّتَها وتنزع عنها وقارَها.
لقد قبلنا بالممرّضات يمرّضن الرّجال باسم الضّرورة، فلِمَ تُلحقُ المرأة المريضةُ بالرّجل المريض فيُجانبُ سريرُه سريرَها، وهما لا يقويان عند انتفاء المعرفة على تبادل التّحيّة في الطّريق العام، إلّا مــــــــا كـــــــان من ابتســــــــامة حييّة خفيّة تراعي العُـــــــــرف المــــــــــوروث، الذي حفظنا عنه تلكم التّقاليد!
أَنَتَجنّب التّحايا العابرة بالطّريق العامّ ونرقد سويّا جنبا إلى جنب في قاعة المستشفى؟ إنّه لأمر جلل وإنّه ليحوي ما يحوي من الخلل! لتكن المحافظة على الاحترام المتبادل في هذه البلاد وفي غيرها كما قلتُ بالمحافظة على الخصوصيّات، فإنّ المرأة للمرأة في ذلك أرحم وأعلم وأنفع وإنّ الرّجل للرّجل في ذلك لأرحم وأدرى وأنفع. وليكن تعاوننا حيثما كنّا في كلّ شيء بلا حدود، ولكن دون تجاوُزٍ للحدود. ولنتبارى جنبا إلى جنب في ميادين الدّراسة والتّرقّي في العلوم والعمل، وليكن ذلك دائما في إطار الاحترام المتبادل، فإنّه متى التصقنا على الأرض دون رادع أو أخلاق أو تقاليد حارسة -كما يحدث اليوم في بلداننا المهدَّدة بإزالة هُويتها نتيجة انصرافنا عمّا يحيينا ويحقّق كرامتنا - التصقنا بها، فخمدت جذوتنا وبتنا كالأنعام لا نهتمّ إلّا بما يشغلنا عن قِيَمِنا، بقي أن نأخذ في بلداننا عن هؤلاء القوم حسن الاستقبال وجودة الخدمـات والسّهر على راحة المــرضى والحرص على التّفاني في العمل!