الجمعة 29 مارس 2024
فن وثقافة

بهجاجي يستعرض ورقة تعريفية بالإصدار الجديد لحسن نرايس "بقاو فديوركم!"

بهجاجي يستعرض ورقة تعريفية بالإصدار الجديد لحسن نرايس "بقاو فديوركم!" محمد بهجاجي ومؤلف الكاتب والإعلامي حسن نرايس
يتفرد الكاتب والإعلامي حسن نرايس، منذ صدور مقالاته الأولى بجريدة "الاتحاد الاشتراكي"، بميزة خاصة: مقاربة الكتابة بروح مرحة، طريفة ومتنوعة، لكن بدرجة لافتة من الجدية والعمق. 
هذا ما لمسناه في إصداره الأول "الضحك والآخر، صورة العربي في الفكاهة" سنة 1996، وكذلك في مقالاته ومتابعاته الصحفية، كما في الزوايا المتعددة التي ساءل فيه، عبر سنوات عديدة، كتابا وفنانين حول ظواهر ثقافية، أو قضايا تهم موضوعات الكتابة والمجتمع والحياة. وقد صدر بعضها في كتاب "أسماء"، الصادر ضمن سلسلة "شراع" سنة 1997. ثم تلتها مجموعة من الإصدارات موزعة بين الكتابات والأبحاث مثل:
- "بحال الضحك،السخرية والفكاهة في التعبيرات الفنية المغربية".
- "السخرية في زمن كورونا".
و إصدارات تقرّب بين الفكر والصحافة والفن مثل:
"أسماء مغربية"، "محطات باريسية"، "السينما بعيون أدباء مغاربة"، "بين الصحافة والسينما"، "المرأة في السينما المغربية خلف وأمام الكاميرا"...
بجوار ذلك، أثرى نرايس الخزانة المسرحية الوطنية بمسرحيات: "صرخة شامة"، "هي هكا" و"بقاو فديوركم"  (موضوع هذه المشاركة).
مع تواصل السنوات، يتأكد لنا أن خزانتنا تغتني، يوما بعد يوم، بالنشاط الحيوي لحسن نرايس، سواء كقارئ للنقد والإبداع، أو كمشارك في المنتديات والمهرجانات الثقافية والفنية، أو كجوال دائم بين الضفتين واللغتين، الوجه الآخر لثقافة مزدوجة لها الأثر البين في شكل المقاربات واختياراتها.
يتأكد كذلك أن نتيجة هذا الحضور المشع تمتع كتاباته بأثر هام. فهي تسمح لنا بالانفتاح على ذاكرة المغرب المعاصر من خلال الاحتفاء بالأثر الجليل للمبدعين والمفكرين المغاربة الراحلين الذين تفاعلوا مع تحولات المغرب، ورسموا على ضوء هذا التفاعل خطوهم الراسخ في مجالات الإبداع الفكري والشعري والقصصي والمسرحي والغنائي والتشكيلي، وذلك ضمن رهان تداول قيم الاعتراف والوفاء والمحبة، وتقاسم الاستمتاع بالانتماء إلى تلك القناديل الحية التي لا تزال تضىء جزءا هاما من مسار تأسيس الثقافة الحديثة ببلادنا، من البدايات إلى الامتداد. 
أما بخصوص النص المسرحي "بقاو ف ديوركم"، الذي نحتفي به اليوم، فهو ينتمي إلى نوعية النصوص التي كتبت تحت وطأة الكوارث والجوائح، أو باستلهام تلك الوطأة كما هي في عملين استحضرا وباء الكوليرا حين اجتاح مصر أربعينيات القرن الماضي: قصيدة "الكوليرا" لنازك الملائكة، ورواية "اليوم السادس"لأندري شديد. ثم هناك، على سبيل الاستعادة التلقائية، رواية "الطاعون" لألبير كامو (الصادرة سنة1947) والكتاب – التحفة "الأيام العشرة" أو "الديكاميرون" لمؤلفه الإيطالي جيوفاني بوكاس (أو بوكاتشيو) الذي سبق أن أخرج بعض مضامينه المخرج السينمائي الإيطالي باولو بازوليني. 
كتاب حسن نرايس ينتمي من جهة ثانية إلى المنعطف الذي تشهده الكتابة المسرحية اليوم حيث يتم التركيز على محور الأسرة المغربية في علاقتها بالأسرة ذاتها، وبتعقيدات روابطها بالمحيطين الذاتي والموضوعي كما سبق لي، أن أوضحت ذلك في سياق سابق.
ولأن مؤلف هذا النص، بالخصائص والصفات التي حاولنا رصدنا في مطلع هذه الورقة من خلال كتاباته وأبحاثه ومشاركاته، فسأقترح عليكم تعريفا بكتابه الجديد يتوخى تقديم توطئة عامة على أن نتولى مستقبلا، بمقاربة نقدية، إنجاز قراءة تسائل الاختيار الدراماتورجي، ونمط بناء  الشخصيات والحوارات والفضاءات...
في هذه الحدود، أشير إلى أن مدارات النص تتوزع على سبع ليال مقتطعة من زمن الحجر الصحي الذي شمل المغاربة والعالم قرابة سنتين مسكونتين بالمشاعر الخاصة غير المسبوقة: الخوف على حاضر قاس مرتبك، وعلى مستقبل مجهول، الشك في الذات قبل الآخر والمحيط...
من هنا سعي المؤلف إلى أن يبني مقامه التخييلي انطلاقا من علاقة متقاطعة بين ثلاث شخصيات:
- "خديجة" الممرضة، الملتزمة خلال هذا الحجز بمتابعة العمل في المستشفى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. إنها في مقام صورة الملاك.
- عامل النظافة، شقيقها المقيم معها في البيت، والمكلف بتنظيف البشرية من أوساخها ونفاياتها. إنه في مقام صورة الملاك المضاعف.  
الملاك وضعفه (الممرضة وعامل النظافة) هما الترجمة الفعلية لما يشبه دينامية التفاعل بين "الأنا" وقريبها وضدها في الآن ذاته.
أما الشخصية الثالثة فهي الأستاذ، الشاعر الضرير، (زوج خديجة) الذي يترجم صورة "مراقب أعلى" من مهامه رصد ما يجري، والتعليق بإرسال كلمات وعِبر تمتح من الذخيرة الثقافية والشعبية، من الشعر العربي والملحون وكلام الغيوان، ومن الأمثال والمأثورات من الشارع والذخيرة الثقافية المشتركة.
لكن أي تعليق ممكن على واقع منكسر حيث الشخصيات ليست وحدها المهزومة، بل الفضاء الرمادي بهوائه الفاسد، وبضغط إجراءات المسافات المتباعدة بين البشر والبشر، وبين من تحب وتحب؟
هل هناك وضع أكثر تراجيدية من الحالة التي صارت تشكك في العلاقة الممكنة بينك والآخر، بينك والمكان؟
ثم هناك ما هو أقسى: الاستسلام إلى أسئلة غير معهودة بإيقاع غير معهود: 
ماذا لو دام الحجز إلى ما لا نهاية.
ماذا لو ظللنا شخوصا مقنعين إلى الأبد؟
بل ماذا لو انقرضت البشرية تماما؟ 
ثم لماذا بدا الذكاء الإنساني عاجزا عن تطويق فيروس خبيث؟ 
تفاعلا مع هذه الأسئلة اختار المؤلف لبنائه الدراماتورجي لعبة السخرية التي وحدها يمكن أن تخفف من رتابة آثار "الكوفيد 19". ولذلك لم يُقل عبثا إن السخرية هي التي تنقذ العالم من الاندحار؟
وفي السياق ذاته قال الشاعر الضرير في النص:
"البصر فيه الهموم، والبصيرة فيها السخرية من الهموم. الكمامة ف القمامة، والسخرية ف البصيرة... نزيدكم ولا بدون..." (ص 17)
ويضيف عامل النظافة:
"هاد كورونا.  يا غادي تقتلنا. يا غادي نقتلوها بالضحك (ص 55).
 وبالفعل فقد صرّف المؤلف هذا التناول الساخر من خلال: 
1ـ اقتراح شخصيات أشبه بتلك المقيمة بمسرح العبث، حيث اللغة بلا معنى، والشخصيات بلا منطق جاهز، 
2ـ من خلال اعتماد نسيج لوقائع ترسخ يوميات الحجز: فقدنا متعة المباريات، والاحتفاء باللقاء الأسري، وبتقاسم المأكولات والحديث مع الأصدقاء والأقارب، ثم الاحتفال بالفرح الذي صار بعيدا.
3ـ ثم صرّف المؤلف سخريته، من ناحية ثالثة، من خلال صياغة حوارات طريفة تستلهم، في جزء كبير منها، أشهر الطرائف والنكت التي  أبدعها مغاربة مجهولون بكثافة دلالية عميقة على مستوى رصد هشاشة الكائن الإنساني، وصيغ مقاومته للوضع.
ومع ذلك ينتفض الثلاثة، في آخر المشاهد (الليلة السابعة) ضد وضع الحجز. بل ضد شرطهم الإنساني بغضب المواطنين البسطاء وتلقائيتهم:
"خصنا تلقيحات وتلقيحات. تلقيح ضد الشغب ف التيرانات. ضد الرشوة والفساد. خصنا تلقيح ضد كثرة السعايا بالأطفال. خصنا تلقيح ضد المتطفلين على السياسة والثقافة وما بينهما. خصنا تلقيح ضد الشفارة والنصابة. خصنا تلقيح ضد المخلوضين والبزناسة... (ص 59).
هكذا يتم الخروج من الهزل إلى الجد،  الوجه الآخر للسخرية. ما يعني أن "الكورونا" ليس فقط الداء والوباء، ولكنها أداة كشف الأعطاب الفردية والجماعية، وفضح الهشاشة والأدواء...
ختاما.  أهني العزيز حسن نرايس مجددا، متمنيا له مزيدا من التميز، إبداعا وكتابة، وحضورا متواصلا ومشعا في مشهدنا الثقافي.
 
(*) نص الكلمة التي قدمت بها الإصدار الجديد لحسن نرايس يوم السبت 18 مارس 2023، بالمكتبة الوسائطية بالدار البيضاء.