الخميس 28 مارس 2024
فن وثقافة

المحاكمات التاريخية في أوراق محمد الصديقي بين معرفة القانون وممارسة البلاغة

المحاكمات التاريخية في أوراق محمد الصديقي بين معرفة القانون وممارسة البلاغة ادريس جبري (يمينا) ومحمد الصديقي
محاكمة "جثة" مناضل لا يموت نموذجا
 
"إن جميع المواطنين يعرفون الحقوق الأساسية المقررة لفائدة الإنسان، لكن المشكلة ليست معرفة الحقوق أو الوعي بها، وإنما الاهتداء إلى الوسائل والأساليب الكفيلة بضمان ممارستها والمؤدية إلى تحقيقها في الواقع الملموس... المشكلة ليست معرفة القانون وإنما كيف يتأتى ضمان ممارستها، " ( من أوراق الصديقي، ص 295- 298).
 

أولا-  من دواعي تأليف أوراق محمد الصديقي، ومسار حقوقي بحجم الوطن

1- من دواعي تأليف أوراق محمد الصديقي

 

متى نكتب؟ ولماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟ تلك بعض الأسئلة المحتملة التي تحكم فعل الكتابة، أي كتابة. وهي الأسئلة التي تطال كتاب، أوراق من دفاتر حقوقي، وكاتبه المحامي والنقيب محمد الصديقي.

لم يكن سي الصديقي ممتهنا للكتابة، ولا كان قلما من الأقلام المنتظمة فيها، في مجال تخصصه أو  في جواره، كما هي عادة بعض المحامين من جيله أو الجيل الذي بعده. ولذلك لم يكن الناس ينتظرون منه ما ليس علامة عليه. ولكن ما إن كتب وأصدر ما كتب وأعلنه للناس، مختلف الناس، خاصة المهتمين بالكتابة والتأليف، بصرف النظر عن موضوعه، حتى صار حدثا غير عادٍ ولا مألوف، خاصة وأنه جاء في سن يُعد متأخرا من حياة المؤلف(طال عمره ودامت صحته وعافيته). ولذلك، كان من الطبيعي، أن  نتساءل، وربما باسم كثير من المتسائلين، لماذا كتب محمد الصديقي  سيرة أوراق من دفاتر حقوقية  هذه في هذا التوقيت بالذات، توقيت كرونا والحجر الصحي (2020)، وبتلك الطريقة الفريدة؟ ولمن كتب ما كتب؟

 

طبعا، تختلف دواعي الكتابة، وخاصة السيرية منها، من كاتب إلى آخر، ومن تجربة إلى أخرى. فهذا عبد الواحد الراضي يكتب عن المغرب كما عاشه، ليس من أوراق مبثوثة في رفوف مكتبته، ولا من يوميات كان يدونها، بل يكتب مما رسخ في ذاكرته بالأساس، وما عاشه من تجارب وأنجزه  من أفعال يسمح  "العقل والمنطق والأخلاق والمصلحة العليا للوطن" بتدوينها، ويقتضي واجب الشهادة" ألا يسكت المرء عما شهده أو اقتسمه مع الآخرين". وغرضه المعلن من هذه السيرة، أن يتحدث إلى الأجيال الجديدة والمقبلة كي يجعلها تستفيد من بعض تاريخها" (الراضي، ص10). وهذا عبد الرحمان اليوسفي في سيرته، أحاديث في ما جرى، وبعد إلحاح رفيقه مبارك بودرقة لكتابة "مذكرات مساره الفكري والسياسي، وسيرته كمناضل وطني ديمقراطي" يقبل أن يفوضه الكتابة نيابة عنه، والإشراف على  تجميع المتاح من المادة الخام من مداخلات وحوارات وشذرات،  وبوح ذاكرة متيقظة نقلها من المروي إلى المكتوب، لفائدة الأجيال الثلاثة لما بعد الاستقلال وخاصة شباب اليوم (ص19-20-25). كما أن هناك من يختار أن يكتب ليتفرج على نفسه وعلى الآخرين من جواره،  وهو يقدم رؤيته للأحداث التي عاشها وانخرط فيها، ظالما أو مظلوما، وتلك حالة محمد العمري في سيرة زمن الطلبة والعسكر(2012).  فالكتابة السيرية عنده  تأبين لزمن ولّى دون رجعة، وتصفية حساب للنسيان: "انظر من أين جئنا وكم تخطينا من حواجز، أو كم ضاع منا، انظروا ما فُعل بنا ...(ص6 العمري). دون أن ننسى أن هناك من يكتب سيرته، أو شذرات منها، بالاستعانة بالسرد، والارتكاز على فعل الحكي، على غرار ما فعل سعيد بنكراد في سيرته، وتحملني حيرتي وظنوني(2022). فآلية السرد  أداة مُثلى للتوفيق بين وقائع خام  تنتمي إلى زمنية تاريخية ولّت إلى الأبد،  وبين استعادة "بعدية" لا يمكن أن تَسْلَم من مضافات اللغة،  وانتقائية الذاكرة، وهوى الانتماء"(ص 11 وتحملني بنكراد).  وهو ما يجعل الكاتب يُبرر أحيانا، يشرح أحيانا، وأخرى يؤول. وفي هذا الاتجاه، ونحن بصدد قراءة أوراق من دفاتر حقوقي لمحمد الصديقي، لا يستقيم أن  نغفل التذكير بتجربة سيرة أوراق  إدريس الذهنية لعبد الله العروي، ودواعي تأليفها. فهي "أوراق منثورة في حاجة إلى نظم وتأليف"(ص5)، وللقارئ الحق "أن يرفض التمييز بين  مؤلف "أوراق" وإدريس كاتب أوراق، وشُعيب المعلق عليها، وصاحب الكلمة الأخيرة في تأويلها"... أوراق إدريس هي حياته، لكن حياته ليست كلها في أوراقه (ص7- 8).

 

غير أن دواعي كتابة أوراق من دفاتر حقوقي للنقيب محمد الصديقي، قد تبدو دواعٍ  من نوع خاص. فالكاتب يذْكُر بعضها ويشير إليها، بوعي ومسؤولية. فأوراق  الصديقي لا تختلف كثيرا عن مسار الكتابة السيرية، وإن كانت تحكمها  حيثيات مميزة مقارنة مع غيرها من تجارب السير الأخرى التي ذكرناها والتي لم نذكرها. فهي نتيجة رغبة في ما تيسّر من بوح حقوقي  في أوقات "صفاء" تُخلُّصه من أعباء الزمن،  و"تُطهّره" مما تراكم من إكراهات المسؤولية، في لحظات الانتهاء من ثِقال المهام،  وضغط اليومي، ومقتضيات واجب التحفظ. إنها نتيجة سد فراغ طارئ ربيع 2017، بعد الانتهاء من مهمة عضوية المجلس الدستوري سنة 2008، وإن بإخراج لغوي عربي راق وباذخ لحياة تمت في غفلة من كاتبها. فالفراغ، والتخلص من واجب التحفظ، جعل الكاتب يكتشف جواره في المنزل، فينبش فيما لم يكن في وقت سابق يدخل في أفق اهتمامه. لذلك استنجد بما سماه الملفات القديمة، وقد طالها النسيان، وبالمرافعات في ردهات المحاكم، وقد تولاها التاريخ، ومقالات وأبحاث وحوارات حافظت عليها المنابر. يقول الصديقي في تقديم أوراقه، وهو يعترف بتلقائية، ودون تعذيب:" لم يكن أمامي إلا أن أعود إلى أوراقي القديمة للنبش في ثناياها لعلي أعثر على ما يساعدني على سدّ بعض أوقات الفراغ- وما أصعبه- وأيضا لاسترجاع  بعض الصور مما عشته على امتداد السنوات الماضية بطريقة أو أخرى"(ص5).

 

الفراغ  قاتل  بالفعل، وأخال النقيب بلباسه المنزلي، يجول في أركان البيت  وقد خلا إلى ذاته ومحيطه الصغير، يقدم رجلا ويؤخر أخرى، وقد أحرق جميع السفن ولم يبق أمامه سوى رفوف مكتبته، وما تحتويه من دفاتر حقوقية وقضائية، وملفات ومقالات سياسية وأخرى إعلامية، وحوارات متفرقة في قضايا مختلفة.  فالكتاب إذن جُماع أجناس أدبية مختلفة ومتكاملة، ترصد وقائع، وتسجل مجريات محاكمات، وتبوح بأسرار مهنية وإنسانية في سياقات لم تعد قائمة،  وتدلي بآراء ومواقف معينة من المعيس السياسي والحقوقي، أعاد الصديقي قراءتها من جديد، وعاشها في لغته وما أضافته في سياق ما يقتضيه التقديم والتأخير، والحذف والترك، والتصريح والتلميح، إلخ، خلقا لانسجام أوراق كانت مبعثرة ومهملة، ومُستلّة من دفاتر حقوقية، ترصد مسارا ينمو ويتطور، كجزء "من مجموعة بهمومها وطموحاتها وعذاباتها...  وعلى أساسها تحاول تكييف وقائعها مع وقائع التاريخ العام للوطن". ( بنكراد، ص14). وبناء عليه، يمكن اعتبار أوراق حقوقي لمحمد الصديقي، قراءة ثانية لتجربة استعادها من أوراق منسية في دفاتر مهملة في رفوف معزولة، لا لتثبيت المعيش والتأكيد على صدقيته، بل أيضا للإفصاح عن المأمول وما تحلم به الذات الكاتبة وتتوق إليه، وتسعى إلى تحقيقه، وهو الوطني الذي تربى في أحضان كبار الوطنيين، وسار على دربهم جنبا إلى جنب، وذلك بعض ما تشهد له هذه الأوراق، وتبوح به.

 

2- مسار بحجم وطن في أوراق حقوقي لمحمد الصديقي

لم يكن  محمد الصديقي يلوي على شيء، وقد كان مشغولا بالنبش في أوراقه القديمة، والمبعثرة هنا وهناك، لعله ينتصر على فراغ داهم وثقيل، وفجأة جاء الفرج غير المتوقع، إذ اتصل به الأستاذ محمد بريكو، نقيب المحامين بالرباط من  شهر رمضان (1440ه)، الموافق ل19 ماي 2019 ميلادية ليطلب منه، سيراً على عادة سابقة، إجراء حوار في مسار النقيب وحياته المهنية وما واكبهما، واتصل بهما من أحداث وتجارب ومرافعات ومداخلات، وفي شهر رمضان الذي أنزل فيها القرآن، وبالضبط يوم العاشر منه بدلالته الوطنية والرمزية. هدية من السماء !، رحّب بها الصديقي وشدّ عليها بالنواجذ. قضى ساعات طوال تحت رحمة أسئلة الأستاذ الطيب لزرق عن قرب وعن بُعد، يجول به من محطة إلى أخرى، ومن حدث إلى آخر، ومن تجربة إلى أخرى ، ومن وضعية إلى وضعية، ومن  مهمة إلى أخرى... كان من ثمار كل ذلك هذه الأوراق المبثوثة في دفاتر حقوقي بحجم الوطن. أوراق" تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا "؛ وكانت نواة صلبة للكتاب ككل،  ومفتاحا "سريا" للولوج إلى باقي عوالم مسار صاحب الأوراق، وقد خرج من رحم أوراق دفاتر كانت بوارا فأحياها وأحيته (من ص11 الى ص93= 82 صفحة ). 

 

في هذا الحوار المؤسس لكتاب الأوراق نبش الكاتب في ذاكرته وفتش، وبدأ بحصوله على شهادة الإجازة في القانون الخاص سنة 1961، وعمره اثنا وعشرين عاما. وككل طالب حديث العهد بالتخرج، وفي ذلك الوقت بالذات، حيث ما يزال الأفق واعدا،  والحماسة حاصلة، كان أمله واسعا في متابعة دراسته العليا  بالخارج وركوب مغامرة الحصول على شهادة الدكتوراه أملا في الالتحاق بالجامعة أستاذا باحثا. لكن جرت الرياح بما لا تشتهيه سفن الطالب وألقت به في مسؤولية الصحافة والإعلام دون استئذان منه، سكريتيرا لتحرير  جريدة التحرير، بتكليف من قامات وطنية لا يُرد طلبُهما، الفقيه محمد البصري ،"مثال التحدي والرفض"، (ص47 العمري) وعبد الرحمن اليوسفي، "بنزاهته الفكرية وصدقه الأخلاقي" (الراضي، ص646)، وبدلا عن قامة لامعة أخرى هي الراحل محمد عابد الجابري. ومما سهل مأمورية الصديقي، في تقديري، وشجعه على قبول المهمة انتظامه المبكر في مسيرة الحركة الوطنية، والحركة الاتحادية، وهو ما يزال ابن الخامسة عشرة من عمره. وكانت هذه المهمة بمثابة "توظيف" بطعم تكليف، في زمن عرف أحداثا تراجيدية، سواء بمحاصرة  مقر الحزب وترهيب قيادته واعتقالها، أو بالاعتداء على مطبعة الجريدة وتلغيمها، مما عجل  بإغلاق الجريدة وإنهاء مهمة الصديقي، كما بدأت.

 

لم يكن أمام  سي محمد الصديقي  في تلك الظروف الصعبة سوى العودة إلى مهنة المحاماة والاحتماء بها سنة 1963.  بدأ تمرينه الأول عند المحامي محمد التبر، وبعدها بمكتب عبد الرحيم بوعبيد، الرجل الذي لم يكن، على حد قوله، "شخصية عادية، بل كان شخصية فريدة بكل المقاييس، ومدرسة كبرى للوطنية والتقدمية..."(ص25 الأوراق)  ليجد نفسه مطوقا بأسئلته الحزبية والنقابية والمدنية والحقوقية والإعلامية  والسياسية والوطنية، ومضطرا في الوقت ذاته، لصياغة مقترح  الأجوبة، والخوض في البحث عنها، وهو شاهد على أحداث كبرى في تاريخ المغرب الحديث، من قبيل ملتمس الرقابة، واختطاف الشهيد المهدي،  والمرافعة في محاكمات سياسية كبرى، منها محاكمة بني ملال مع القائد البشير التهامي، والقائد محمد بنحمو الكاملي، ومحاكمة أطلس محمد بلحاج ومن معه، ومحاكمة الحبيب الفرقاني ومن معه، وأحداث مولاي بوعزة  بإقليم خنيفرة ، فالمؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي 1975... فإضراب سنة 1981 واعتقال قيادات  النقابة (على إثر زيادات كبيرة في أثمنة المواد الغذائية الأساسية)... وقضايا أخرى انخرط فيها الصديقي وأبلى البلاء الحسن، كما هو وارد على امتداد الكتاب.

لتتبقى، في نظري،  المحاكمات الواردة في الكتاب الثاني بعنوان، "من معارك الدفاع في محاكمات لها تاريخ" (من ص99 الى ص217) القلب النابض للكتاب وبؤرته الجامعة. فهي لحظات تاريخية صعبة من تاريخ المغرب الحديث، تشهد بعظمة محمد الصديقي كإنسان، وقيمته كمحام ونقيب ومناضل، وهو يُرافع  في قضايا جنائية، بمذاق سياسي، وحُلم وطني كبير. من هذه القضايا نذكر قضية أطلس بلحاج ومن معه، وقضية الشهيد عمر بنجلون ومن معه،  وقضية عبد الرحيم بوعبيد ومن معه، وقضية نوبير الأموي وحيثياتها، فقضية الشهيد المهدي بنبركة وتداعياتها. ونظرا لتعذر الوقوف عند جميع هذه المحاكمات التاريخية، وعملا بقاعدة ما لا يدرك كله لا يترك جله، سأتوقف عند محاكمتين تاريخيتين كبيرتين، لهما امتدادهما إلى اليوم،  وتلقيان بظلالهما على راهن المغرب وآفاقه المتوخاة، وفيهما سطع  نجم المحامي والنقيب والمناضل والسياسي والحقوقي سي محمد الصديقي، وأبان عن طينة محام مناضل شرس خلافا لما كان يوحي به،  ولكن باعتدال ورزانة ووسطية. المحاكمة  التاريخية الأولى، خاصة بقضية الشهيد عمر بنجلون، ومن معه، وقد انتقى الكاتب عنوانها بدقة وعناية: "محاكمة مناضل قُتل غدرا" (19 يوليوز 1976)، والمحاكمة التاريخية الثانية، مرتبطة بحدث اعتقال عبد الرحيم بوعبيد سنة 1981  ومن معه، على أساس "مبدأ إجراء استفتاء في الأقاليم الصحراوية"، وما سببته من  زلزال سياسي بكل المقاييس (ص54)، خاصة مع إصدار بيان المكتب السياسي شهر شتنبر 1981،  ومصادفة الإضراب الوطني العام الذي دعت إليه الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، واختار لها الكاتب،  والاختيار بلاغة، عنوانا بدلالات تناصية مفارقة، وبأفق كوني مفتوح، "ربِّ السّجنُ أحبُّ إلي..." (ص131).

 

ثانيا- في محاكمة "جثة" مناضل "حي"، ووطني السّجنُ أحبُ إليه.. بين معرفة الحقوق وممارسة البلاغة

1- مرافعة الصديقي في محاكمة "جثة" مناضل لا يموت

إنارة لا بد منها: قف عمر بنجلون على الباب

 

لم يكن النجاح الباهر الذي عرفه المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية  سنة 1975 ليمر دون التنغيص عليه، وعلى صُناعه، من كل الجهات التي تعتبره خطرا على وجودها، وتهديدا لمصالحها، خاصة بعد بوادر الانفراج التي بدأت تؤشر على  تحول سياسي قادم.  فقد كان الشهيد  عمر بنجلون (1936-1975) واحدا من كبار صُناع  ذلك النجاح. إنه "فارس التنظيم الحزبي والنقابي"، كما نعته الراحل الجابري(مواقف ع8-9) ، بل الكاتب الفعلي لمسودة التقرير المذهبي للحزب عصرئذ. إضافة إلى كل ذلك،  ورغم ما ناله الشهيد عمر من "النصيب الأوفر من التعذيب والقمع" (عن اليوسفي، ص144) من الأقارب قبل الخصوم،  فقد ظل الرجل وطنيا حتى النخاع، إذ تطوع للدفاع عن "قضية الصحراء المغربية أمام محكمة لاهاي الدولية". ونظرا لما يتوفر عليه عمر بنجلون من خصال وطنية، وكفاءات عالية، وجرأة في اتخاذ القرار، وصناعة الأحداث، فقد كان   ذلك سببا في مبادرة عبد الرحيم بوعبيد  ليتولى منصب الكاتب الأول في المؤتمر الوطني الاستثنائي لسنة 1975. إلا أن تحفظ كل من محمد البصري وعبد الرحمان اليوسفي، كان كافيا لتأجيل المهمة. "لظروف غير مناسبة، لا حزبيا ولا وطنيا..." (ص145 عن اليوسفي)

 

إن الغرض من هذه الوقفة، على كثافة معطياتها، والتذكير بتلك المعلومات على شُحّها، إنما القصد منه التنبيه إلى المكانة المرموقة التي يحتلها الشهيد عمر بن جلون في مسار الاتحاد، وموقعه القيادي فيه. ولا غرو، إذا تحرك أعداء التوافق والتناوب مع الراحل الحسن الثاني، لاستهدافه والقضاء عليه، سواء مع  بعض رفاق الطريق وقتها، وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ( انظر رسالة عمر بنجلون إلى المحجوب بن الصديق، في أحاديث في ما جرى، ص146) أو داخل دواليب الدولة، أو مع زنابير الأصولية من "الإسلاميين"، فاغتالوه  شر اغتيال، وتمت محاكمة المنفذين، ذرا للرماد في العيون، وفي الوقت نفسه التستر  على المُدبرين للقتل والأمر به، ولعله ما دعا الصديقي إلى نعت هذه المحاكمة التاريخية الكبرى بالمسرحية الهزيلة (ص113)... (انتهت الإنارة وُيسمح بالمرور)

 

هل يمكن للقانون أن يكون العدة والعتاد الوحيد للمحامي في ممارسة مهنته؟ هل استحضار مواد القانون، وحفظ فصوله، وعرض قواعده، وتمثل المساطر، والإلمام بأنواع الأنظمة القضائية، أو حتى استيعاب المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، كافية لممارسة مهنة المحاماة والنجاح في أداء رسالتها النبيلة؟ ذلك ما تنبه إليه  محمد الصديقي، بحدس استباقي، وأقرّ به لما قال، وبعبارات منتقاة:" أما بالنسبة للمحامي بصفته هذه فإن اختلاط القانوني بالسياسي، إن كان لا يساعده على أداء مهمته في أحسن الظروف وأيسرها، فإنه يمكِّنه على الأقل من تعرية الخلفيات الحقيقية لكل محاكمة من هذا النوع حتى تنكشف للرأي العام أبعادها الخفية، وحتى يتأكد للجميع من أن القانون ليس هو كل شيء في المحاكمات السياسية"(الأوراق، ص185).  قد يكون ذلك  حصيلة حدس الممارس عند الصديقي، أو خلاصة خبرة وتجربة في المرافعات، يؤكدها قوله في سياق حديثه عن قانون المسطرة الجنائية :"...فإن التجارب أثبتت على امتداد العصور بأن المعيار الكفيل بالكشف عن المضمون الحقيقي لأي نص، وعن خلفياته وأبعاده، إنما هو التطبيق الذي يعرفه في الميدان وما يخلفه من آثار عاجلة أو آجلة على كل طرف معنيّ" (ص237) . ويضيف في سياق آخر، وتعضيدا لكل ما  سبق: "إن جميع المواطنين يعرفون الحقوق الأساسية المقررة لفائدة الإنسان، لكن المشكلة ليست معرفة الحقوق أو الوعي بها، وإنما الاهتداء إلى الوسائل والأساليب الكفيلة بضمان ممارستها والمؤدية إلى تحقيقها في الواقع الملموس... المشكلة ليست معرفة القانون وإنما كيف يتأتى ضمان ممارسته" ( من أوراق الصديقي، ص 295- 298). ولذلك لم يجد بداً من العودة إلى الأدب، مسرحا وبلاغة، للاحتماء بهما والاستنجاد بآلياتهما في مرافعاته والدفاع عن موكليه، كما سنرى لاحقا. 

 

وفي هذا المقام، ومن باب التذكير أيضا، فقد كان أرسطو يدرج القانون، باعتباره في الآن ذاته أحد ضمانات سلامة الدولة / المدينة، وصون الديمقراطية، وأيضا وسيلة من وسائل الإقناع، ضمن الحجج غير الصناعية (Extra-technique) مثل القوانين، وشهادات الشهود، والقَسَم والاعتراف تحت التعذيب والعقود، وهي حجج سابقة عن وجود الخطاب والمرافعة، نستفيد منها ونوظفها في مرافعاتنا. أما الحجج الصناعية، بما هي أيضا مواد للإقناع في الحياة العامة، وداخل المحاكم، فتُعد بالحيلة والكفاءة والجهد الفردي للمحامي (الإيتوسEthos) حسب الموضوع والمناسبة والسياق،  والخطاب الذي يُعده مشفوعا بحجج مناسبة للإقناع، مثل القياس (الضمير، بلغة القدامى) والمثال بأنواعه (اللوغوسLogos)، ومن يتوجه لهم به (الباتوسPathos) مما يدخل في مجال الاحتمال، أو الشبيه بالحقيقة (Vraisemblable) وليس الحقيقة في ذاتها وجوهرها حيث لا مجال للضرورة والإلزام (بنوهاشم، بلاغة الحجاج)، على أساس أن القانون نفسه مرتبط بالقيم التي يسعى إليها المشرع، فيما القاعدة القانونية من صنعه. وفي كل الأحوال فهما معا حصيلة صيغة لغوية طبيعية حمالة أوجه، تحتمل التأويل وتعدد وجهات النظر وتبرير القرارات والأحكام، وتقديرات القضاة، وذلك ما يشهد له فيلسوف القانون والبلاغي الفيلسوف شاييم بيرلمان قائلا "إن القانون، بالأخص، هو الذي يوفر المجال المفضَّل للحجاج، لا أعني ذاك الذي ندلل فيه على حقيقة دعاوى معينة، بل ذلك الذي تبرَّر فيه القرارات التي سوف تتم مماثلتها بالحقيقة بعد أن يَصدر بشأنها حكمٌ نهائي، حين سيتعلق الأمر بقرار له حجية الشيء المَقضي به(L’autorité de la chose jugée)"(انظر بنوهاشم، ص30، من ترجمة إمبراطورية الخطابية لبيرلمان). ولمزيد من التفصيل في الموضوع يمكن الرجوع إلى كتاب مؤسس في بابه لشاييم بيرلمان نفسه، بعنوان Logique juridique, Nouvelle rhétorique :

 

وفي محاكمة الشهيد المغدور عمر بنجلون حضور قوي لكل ما سبق ذكره، لم يجد المحامي الصديقي خيارا من اللجوء إليه والاستعانة به لاستخلاص، وعلى أساس آلية التشبيه أو الاستعارة، أن محاكمة الشهيد ومن معه كانت مسرحية هزيلة و"هزلية" في كل أطوارها،  لمفارقات مجرياتها، وتهافت أحكامها، وغرابة قراراتها، وتدليس مسوغاتها (براءة واستمرار اعتقال). فقد بذل المحامي مجهودا استثنائيا في البحث عن أصول المسرح وخصائصه وقواعده وأنواعه وأهدافه، وأظنه رجع إلى أرسطو باعتباره أول المنظرين له في كتابه: الشعرية Poétique))، وهي العلم الذي يحلل الخطاب المسرحي، بشقيه الكوميدي/الهزلي، والتراجيدي / المأساوي، ويرصد آليات اشتغاله. ولا غرابة في الأمر، فلا يختلف فضاء المحاكمات في المحاكم عن خشبة المسرح، بكل قواعده المرعية، فصّل فيها المعلم الأول نفسه في كتابه المذكور، وفي كتابه، الخَطَابية (Rhétorique )، نَظّر فيه لآليات الخطابة في المحاكم اليونانية وقتها. وقد كانت حاضرة بقوة على امتداد جميع المحاكمات، خاصة السياسية منها، التي رافع فيها الأستاذ الصديقي، ومنها "محاكمة مناضل قتل غدرا". والمرافعة في الأصل بلاغة، في شقها الحجاجي والتخييلي معا، وقد أصبحت حسب الفيلسوف البلاغي ميشيل مايير (M. Meyer)، مصفوفة (Matrice) العلوم الإنسانية اليوم، وبالتالي لا محاماة دون  قدر مُقدر من البلاغة، بمعناها الجديد، سواء من هم واعين بذلك أم لم يكونوا. وإليكم  بعض المؤشرات  التي يسمح بها المقام، على ذلك، وعلى الشكل الآتي:

المقطع الأول من المحاكمة،  قبيل مرافعة المحامي  والنقيب محمد الصديقي لفائدة موكليه، وفي مقدمتهم عمر بنجلون، وبعد توصيف لفضاء المحاكمة، القاعة رقم 02 بمحكمة الاستئناف بالرباط، وما تحتويه من تجهيزات وأثاث، وصور وعلامات وملفوظات، تؤثث فضاء المحاكمة وترسم الحدود وتُعين المجال، وما يثيره  كل ذلك من هيبة وإجلال عند كل الحضور/ المُستمَعِين( Auditoires) بمختلف مستوياتهم ومواقعهم وصفاتهم ورتبهم، ومدى قُربهم من المحكمة، كهيئة المحامين، أو بُعدهم عنها، كأهالي الأظناء،  وبعد عرض المحكمة  في شخص رئيس الهيئة، ومن يساعده، بخصوصية بذلهم وما ترمز إليه من طلب العدل، ورفع الظلم في صوريته والبحث عن الحقيقة في مثاليتها،  فضلا عن مواقع جلوسهم، والسلط التي يتمتعون بها وما توحي به من "قدسية" القاضي ومهامه، يعطي الكلمة للدفاع  لتبدأ  "المسرحية" أو المرافعة.  

 

يبدأ المحامي،  وهو يتوجه إلى رئيس الجلسة وباقي الأعضاء معه، وببذلته السوداء والشريط الأبيض  الذي يتخللها بخطاب قد يكون شفويا أو كتابيا، يُحكِم الخطبة  ويوجهها، وعينه التأثير على الرئيس وباقي أعضاء الهيئة  وإقناعهم خدمة لموكليه، بكل الوسائل الإقناعية المتاحة. يقول المحامي: "سيدي الرئيس، حضرات الأعضاء، أنهت محكمتكم الموقرة مناقشة هذه القضية المعروضة عليها، وذلك بسماع المتهمين جميعا وتقديم النيابة العامة لعرضها ومطالبها. والآن، وقد حان وقت الدفاع فإنه لا يسعنا  إلا أن يسجل روح المسؤولية والجدية التي سيرتم بها المناقشات طيلة أربعة أيام كاملة. وإذا كان الدفاع يعتبر أن هذا الشيء طبيعي، فذلك لأنه يضع مؤسسة القضاء في مكانها ويقدر دورها الحقيقي كواحدة من المؤسسات الأساسية في البلاد، الأمر الذي يفرض أن يحتفظ لها بمكانتها دوما وبالرغم من كل شيء". (ص113).

 

لم يكن هذا الاستهلال(Exorde) اعتباطيا في أي خطبة أو مرافعة، بل مدخلا ضمن استراتيجية دفاعية للمحامي، أي محام، بقصد استمالة المستَمَع أمامه/القضاة،  وإثارة أهوائه، ومخاطبة عقله، في الآن نفسه، لكسب ثقته وتأمين تعاطفه وانتباهه (بلاغة الباطوس)، تمهيدا للتأثير عليه، وتغيير الحكم، إن اقتضى الحال، لصالح القضية. فالمحكمة مسؤولة وجادة، وتلك طبيعتها، لكي يستدرك، في تلميح ملغز وساخر، تقوض جدية الخصوم/ القضاة لما أضاف:" الأمر الذي يفرض أن يحتفظ لها بمكانتها دوما، وهذا دوركم، بالرغم من كل شيء، رغم أنني ومؤازري، من حزب معارض، واتهموا بتهم ثقيلة منها محاولة الاعتداء على سمو ولي العهد، وبالتالي المطلوب تحييد المحاكمة وضمان نزاهتها، والتقليل من تفخيم التهم وتهويلها... لكن سرعان ما ستتغير نبرة خطابه، وبكثير من النظافة واللباقة،  ليعتبر أن "المتابعين المبرئين بالدفع بأن الأقوال والنوايا والأفعال المنسوبة إليهم لا تعدو أن تكون أحداث مسرحية مُعدة وفق خيال غير بارع" ( الصديقي ص115 ، وانظر اليوسفي ص143...).ومادامت المحاكمة مسرحية، وهذا من طبيعتها، ولكن لطبيعتها الهزلية، ونهاياتها المأسوية، فقد اضطر للعودة إلى كتب الأدب، وتلك عودة طبيعية ومطلوبة لكل محام وممارس لمهن القضاء من أي موقع. لأن القانون مجرد عنصر (الصديقي، ص 145)، ضمن منظومة في فعل أطوار المحاكمة والتقاضي، ويدخل عند أرسطو، كما سبق ذكره، ضمن الحجج غير الصناعية، مثل شهادات الشهود، والقسم والاعتراف تحت التعذيب والعقود. وعلاقتهما بالمسرح وآلياته وطيدة ومستحكمة، وبالبلاغة وآلياتها لزومية ومضطردة.

 

أما المسرح فقد أفاض الأستاذ الصديقي في تعريفه، وتعيين قواعده وأنواعه وأهدافه، وجل المحاكمات تجري   كما يجري العمل المسرحي، ووفق تصميم محدد، شأنه في ذلك شأن الخطابة السياسية وغير السياسية، من ثم وجب على المحامي، أي محام، ألا يظل محصورا في دائرة القانون كقانون فحسب، بل ملزم بالخروج من قوقعته تلك والانفتاح على المتاح من الثقافات، وفي مقدمتها المسرح والبلاغة، بالمعنى الجديد الذي نعتمده. وبالمناسبة، فلا تجد محاميا في أمريكا، ونظرا للمكانة العليا التي يتبوؤونها في المجتمع الأمريكي، لا يدرس البلاغة وبشكل نظامي متواتر(انظر بيرلمان في الموضوع).

 

المقطع الثاني من المحاكمة، ويمكن اعتباره سردا (Narration)، بمضمونه في الخطابة عند أرسطو، وطرحا للقضية وبسطا لها،  بإلقاء الضوء على الوقائع والاتهامات، وأهم ما يتضمنه ملف القضية، مع حشد الأدلة (Preuves) لصالح الموكل، و طلب الحجج  وترتبييها من الأقوى إلى الأقل قوة، في مقابل تفنيد(Réfutation) دفوعات الخصم والتركيز على مفارقاتها، وكشف مغالطاتها، ومواطن الفخاخ في طياتها، ثم أخيرا الختم (Péroraison ) بما تقتضيه طبيعة المحاكمة ومخرجاتها، وشرط التكيّف مع سياقات القضية، ومعتقدات المستمَع  Auditoire) وميولاته وقناعاته وانتماءاته لحمله على التصديق(Adhésion)  وقبول دعوى الخطيب/ المحامي ، والتسليم بالرأي أو الموقف أو الحُكم، حاضرا في المحكمة أو مفترضا. وهو المسار الذي اختاره الأستاذ الصديقي في مرافعته في هذه المحاكمة، كما سيتضح فيما سيأتي.  فبعد استيفاء شروط الاستهلال، والدخول في عرض القضية بحيثياتها المركبة، من خلال  مؤشر عبارة: السيد الرئيس... بدأ المحامي  النقيب الصديقي  في مرافعته، عبر آلية التدرج، من البسيط إلى المركب، أولا، بإخبار وإقرار للسيد الرئيس وأعضاء  الهيئة ، بأنه مكلف بمؤازرة المتهمين الذي أورد أسماهم السبعة ( محمد كرم، وعبد العزيز بناني، وتوفيق الإدريسي، وسهيل إدريس، وعبد المومن إسماعيل، ومصطفى القرشاوي، والعربي الأيوبي)، وكذلك مؤازرة "الزميل المرحوم عمر بنجلون، وهو متابع بنفس التُّهم قبل أن يتعرض للاغتيال يوم 18 دجنبر 1975"؛  لينتقل لذكر صك اتهام موكليه المتمثل في "المشاركة في المس بأمن الدولة الداخلي، وتكوين عصابة مجرمين، ومحاولة الاعتداء على شخص سمو ولي العهد، وإلحاق أضرار بملك الغير، وعدم التبليغ" (ص114). وكلها تُهَمٌ ثقيلة، "تَنُوءُ بالعُصبة أُولي القوةِ"، وتشكل موضوع المرافعة ورهان الدفاع، وإن ذَكّر، والذكرى قد تنفع  الهيئة، إن حسُنت النية، بأن هذه القضية قد جرت أطوارها سابقا، وأُقفل الملف. لكن لا حياة لمن تنادي، ولذلك احتاج المحامي إلى إيجاد (Invention) الحجج المناسبة لموضوع المرافعة،  وحشد مختلف مواد الإقناع لذلك، والعمل على ترتيبها (Disposition ) عبر سلم حجاجي متحرك، من الأدنى إلى الأعلى. وهكذا، بدأ المحامي، وبأسلوب واضح ومناسب لمقام التقاضي، وفضاء المحكمة "الموقرة"، بإقرار براءة موكليه مما نسب إليهم، جملة وتفصيلا، كما قضى بذلك القضاء العسكري بالقنيطرة(1973)، ووفق فصول القانون الجنائي الجاري به العمل وقتها. وتلك حُجة إضافية تعضد موقف المحامي، وتصب في مصلحة موكليه. والمفارقة الفاقعة حجاجيا التي شدد عليها النقيب وأبرزها هو أن تبرئ المحكمة المتهمين ثم تستمر في حجزهم، وبشكل مذل وحاط بكرامتهم، أمر غير قانوني ولا إنساني. فعوض تسريحهم وإخلاء سبيلهم يتم اقتيادهم، كما "القطيع" في "شاحنات مغطاة "بقلوع"، ومحاطة بكوكبة من رجال الشرطة الراكبين على متن دراجات نارية" إلى جهات مجهولة، لا تعرف عنهم عائلاتهم  ولا أحزابهم ولا دفاعهم نفسه ما يطمئنهم على المستوى العائلي والقضائي، على حد سواء.  بهذا الأسلوب، وما يتميز به من إطناب مقصود (L’ampleur)،  وتكثيف للوصف والنعت المطلوبين، والمبالغة المقصودة، مع مراعاة أدوات الربط، وتبسيط العبارة، وتهويل المشهد،  لما للأسلوب في المرافعة من قدرة إضافية على التأثير وإحداث الإقناع  على هيئة القضاء وتيقينها (Convaincre) وإبراز التهافت حاصل في القضية. والمفارقة الأخرى التي أمعن المحامي النقيب في فضحها والكشف عنها، ما  تضمنته القضية من  مغالطات  وانزلاقات وبالتالي من تدليسات فاضحة ومدخولة بحشر مجموعة أخرى غريبة عن الملف لخلط الحابل بالنابل، وإيقاع الوهم، وإخفاء الانحراف، وبالتالي التشويش على القضية برمتها. حدث كل هذا، على ما يبدو، بكثير من الهدوء، والسلاسة وبُعد النظر، بالنسبة للنقيب الصديقي.

لكن في المقطع الثالث من المحاكمة، ستتخذ المرافعة منحى آخر، وسيتغير مجراها وستشتد حرارتها، وستبدأ  المواجهة الكبرى بين منصة الهيئة، بخلفياتها من وراء هذه المحاكمة، وخرقها الواضح للقانون الجاري به العمل، وبين الدفاع بمرجعياته النضالية والسياسية  والحزبية التي لا تروق للهيئة ولا تطمئن إلى حزبه، بما هو "حزب  تخريبي وهدام"(ص117). صحيح، "المحامي الذي يرافع أمام محكمة ينبغي أن يُقنع القضاة الذين تتشكل منهم هذه المحكمة"(ص83 بيرلمان الإمبراطورية الخطابية) ولكن يحتاج أحيانا  إلى قدرٍ محسوب من السخرية باعتبارها آلية بلاغية بامتياز، بالدعوة إلى الحوار الإيجابي لمن له نية صادقة في الحوار،  أو السخرية من الُمدلّسين والُمغالطين  والمغرورين  والمتعجرفين والمتواطئين، ممن ينتصر للعدالة المقلوبة، والحق المدخول. إنها آلية دفاعية ضد الظلم أو القهر أو الإهانة... وهي التي تقلب الموقف المأسوي إلى موقف هزلي يثير الضحك أو البكاء المر. إن لجوء الصديقي إلى قدر من السخرية في مرافعته، يدل على إدراكه لعبثية المحاكمة، والمصادرة على المطلوب(La pétition de principe) بما هي خطأ في الحجاج، ووحدها السخرية التي " تحافظ على التوازن، وتحقق التماسك، والدفاع عن النفس في مجتمع مقلوب"( العمري، البلاغة الجديدة، ص101). وعليه، فغالبا ما  نستعمل السخرية عندما يذهل القاضي أو يغفل أو يتغافل عن الحجة ولا يراها أو لا يريد أن يراها، لسبب أو لآخر، وبالتالي فالسخرية إدانة للتحجر، وضيق الأفق. والدليل على ذلك، ومن باب التذكير، وعودا على بدء، كما استدرك النقيب،  لما وصف المحاكمة بالمسرحية، والمعدة وفق خيال غير بارع" (ص115). بدأ  صبر المحامي  "ينفذ"، وقد أمعنت المحكمة في تعويم القضية والمناورة بها. وهكذا، لم يجد بداًمن الرجوع إلى "كتب الأدب بدلا من كتب القانون"، ليمتح مما يتيحه أدب المسرح في مرافعة تحتاج إلى الأدب، مسرحا وبلاغة، وغيرهما، للتأثير والحث على الفعل من خلال توظيف الصور، استعارة أو تشبيها أو كناية أو غيرها. لم يطلب المحامي المسرح بقواعده وخصائصه لذاتها، بقدر ما وظف ما يوفره من تقنيات تساعد على فهم أحداث المحاكمة، وأهداف المسرحية، والحكم القضائي "المطبوخ"، زبدته، على حد تعبير النقيب، "القضاء على "مسؤولي الاتحاد الوطني، الاتحاد الاشتراكي حاليا، وإما مناضلين في قواعده. فالبطل في المسرحية هو هذا الحزب بالذات، ومن خلال تلك الشخصيات"(ص117). ضربة احترافية قوية وذلك ادعاء الدفاع، وقد حشد له حججا تفند دفوعات الخصم وتبرز مفارقاتها، وتكشف عن مغالطاتها، ومكامن الفخاخ في منعرجاتها، التي جاء بها خطاب التقرير الإجمالي للضابطة القضائية، وشهود الزور التي تمت تعبئتهم، والإيهام بعلاقة عمر بنجلون والألماني، والإيهام بتوقيع بعض الأوراق طلبا للعفو،  ثم أخير يختتم (Péroraison ) المحامي الصديقي مرافعته القوية، وبأسلوب هادئ وهادف، ومن خلال عبارة توحي بالخلاصة، وتستهوي الهيئة وأعضاءها، "من أجل هذا، سيدي الرئيس، حضرات الأعضاء"... وبروح نضالية عالية، والتزام حزبي وسياسي واضحين، تسمي الأشياء بمسمياتها، وتفضح المستور وتعلن عليه، يقول النقيب، ونورد هذا النص القوي، على طوله:" على الرغم من سقوط  الشخصية الرئيسة المركز عليها في القضية.. على الرغم من سقوطه شهيدا على ساحة النضال الشريف، وضحية الغدر والطعن من الخلف.. ودون "مواجهة" على الرغم من ذلك، فإن المسرحية التي كان يراد لها أن تكون مأساة للبطل الكبير، تنقلب اليوم إلى ملهاة، لأن نهايتها ستكون  هي انتصار ذلك البطل...انتصار فكر وروح الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية...ليس ضدا على أحد، وإنما لخير الجميع...

وأعتقد في النهاية، سيدي الرئيس، أنه لن يكون على محكمتكم الموقرة إلا أن تلاحظ وتعاين إخفاق سلطة الاتهام في حبك صك اتهامها، وأنه لن يكون عليكم بالتالي إلا أن تحكموا بالبراءة التامة  لفائدة الزملاء والإخوان الذين أتولى مهمة مؤازرتهم في هذه القضية. وهو ما يستفيد منه كذلك باقي المتهمين المبرئين يوم 30/08 1973." (ص128). وهو ما تحقق بالفعل بنسب كبيرة، لما ذكر الكاتب الأحكام في القضية، على هامش المحاكمة، إذ هناك من تبرأ، وهناك من سقطت الدعوى عنه، وهناك من أدين. وذلك صميم الحجاج، بما هو جناح من أجنحة البلاغة، القائم على الاحتمال والترجيح، كما هو شأن القانون، وكل مهن القضاء. فلا حجاج ضد ما هو بدهي ملزم، سواء كانت بداهة عقلانية ديكارتية، أو كانت بداهة تجريبية كانطية (Perelman , Rhétorique et philosophie,p30.(

ربما لم تسجل المحاكمة بأكملها، ولم يتم حفظها حية طرية، في تفاصيل بدايتها إلى نهايتها، ولم نقف عند طبيعة الحوار بين المحامي وأعضاء الهيئة، ولم نتمكن من مشاهدة إلقاء (Action) المحامي محمد الصديقي لمرافعته أو خطابه وهو يدافع عن موكليه، ويتحرك في فضاء القاعة 02 بمحكمة الاستئناف بالرباط، وهو يلقي خطابه أو مرافعته الشفهية، في إحداث التأثير  وإثارة  الأهواء، والحث على الفعل  واتخاذ القرار لصالح موؤازريه. ومهما تخيلنا طريقة الإلقاء، سواء في استغلال فضاء المحكمة، والتحرك فيه، ومهما  تخيلنا حجم صوت المحامي  ونبراته، وعلوه وخفوته، وهو يرافع، في لحظات مختلفة من أطوار المحاكمة، تبقى المحاكمة تاريخية  لها ما بعدها، شأنها في ذلك شأن محاكمة القائد الهمام عبد الرحيم بوعبيد، وهي إحدى أشهر المحاكمات السياسية في تاريخ المغرب الحديث، "ربِّ السجنُ أحبُ إلي من ألتزم الصمت ولا أقول رأيي في قضية وطنية مصيرية وهي موضوع المقالة القادمة، بعنوان، المحاكمات التاريخية في أوراق محمد الصديقي بين معرفة القانون وممارسة البلاغة، محاكمة السّجنُ أحبُّ إلي.../..