الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبدالحميد العدّاسي: النّصّ

عبدالحميد العدّاسي: النّصّ عبدالحميد العدّاسي

عمِلَ سادتُنا المعلِّمون المربّون الأفاضل على ترسيخ بِنية الموضوع الإنشائيّ (النّصّ) في الذّاكرة... قدّموه لنا مقدِّمةً وجوهرًا وخاتمةً: مقدِّمةٌ تبسط وتمهّد، وجوهرٌ يشرح ويفصّل ويُقنع، وخاتمةٌ تلخّص وتستخلص.

كانت أسوأ ملاحظة يحصل عليها الطّالب كاتبُ النّصّ، تلك التي تقول: "خارجٌ عن الموضوع" أو "خارجٌ عن النّصّ"؛ إذ قد يعني ذلك الخروجُ عدمَ الفهم نتيجة عدمِ التّركيز أوعدمَ الحرص على الفهْمِ. يغتمّ المدرّس الرّساليّ المربّي لمنح ذلك التّقييم، فلعلّه قصّر في الإفهام فتراجعت قدرة طلّابه على الفهم.

اجتهدنا صغارا حتّى كانت كتاباتُنا في الموضوع، في صميم مضمونه، وحَظِي النّصّ بملاحظاتٍ حرّضتنا على العناية به حرفا ولفظا وإحسانا للبناء وترقية للمعنى وتثبيتا للقِيم؛ إذ لا قيمة لنصّ، مهما كان كاتبه، إذا ما غفل الكاتب فيه عن القِيم.

كبرنا وقرأنا عن الدّنيا وما فيها، فانتبهنا إلى أنّ بلدانَنا وشخوصَنا كانت مجرّد نصّ كتبه المتطاول دون مراعاةِ توجيهاتِ معلّمينا الأفاضل.

لم يُقدّموا للكتابة أو أنّهم قدّموا لها بليل، ووقع الإخلال بمضمون النّصّ فخرج الكاتبُ الذّميمُ عن الموضوع، يفرض أمره السّمج رافضا المراجعة أو التّراجع، مستغلّا أمّية خيّمت لبّست على بعضنا بالنّصّ على النّصّ فورّثتهم التّقصير في فهم القواعد الدّينيّة التي منها تلك القائلة بعدم الاجتهاد مع النّصّ. قرأ الكاتب الذّميم في تراثنا وتعاليم ديننا "لا اجتهاد مع النّصّ" فأراد تنزيلها فينا بمكر وخداع يقنعنا بعدم الاجتهاد مع أيّ نصّ.

صحيح أنّه لا اجتهاد في النّصّ المجمَع على ثبوته في دين الله ﷻ، فقد جاءت آية الأحزاب منبّهة إلى ذلك: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٖ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَي اَ۬للَّهُ وَرَسُولُهُۥ أَمْراً أَن تَكُونَ لَهُمُ اُ۬لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْۖ وَمَنْ يَّعْصِ اِ۬للَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلاٗ مُّبِيناٗۖ} (الأحزاب: 36)، غير أنّ ذلك لا يعني أبدا منع الاجتهاد مع أيّ نصّ، بل إنّ الاجتهاد واجب في غير الموقوف ناهيك عن النّصّ العادي المعتدي المثبّت لقواعد الظّلم مثل نصّ سايكس بيكو المستعبِد أو نصّ بلفور المجرم المستولي المحتلّ أو تلك النّصوص الأدوات التي جاء بها الحاكم التّابع الذّليل سليلُ الاحتلال وعميلُه، المتحدّثة عن الحزب الواحد والرّأي الواحد والمجالس المعيّنة والإدارة الصمّاء التي تتغشّى بسلوك العبد المأمور!...

وجب علينا، نحن وأبناءنا وأحفادنا، أن نجتهد ابتداء من اللحظة مع هذه النّصّوص فنراجعها وننقّحها ونخرج عليها، بل نخرج منها حتّى نكونَ نحن كتبتَها. نكتُبُها كما علّمنا معلّمونا الأفاضل مقدّمةً مقبولة، وجوهرا يحترم القِيم والقارئ والنّاس أجمعين ولا يتعدّى على الحدود، وخاتمةً تذكّر بأنّنا جميعا أبناءُ آدم وأنّه عليه السّلام من تراب.

ليس مشرّفا ولا مقبولا أن نخضع فنكون مجرّد نصّ كتبه الأراذل، ولن نسمح بأن تكون بلادنا بدباغها الطّاهر المانع للنّجاسة رقعةً يُكتَب عليها بالحبر النّجس أو يستميلها الحاكم الدّمية بآيات قرآن حفظها للتّنصيب ثمّ استعملها بعد ذلك معاولَ يغوّر بها الأخاديد التي سينشرُنا فيها ويحرّقُنا داخلها.

لن تكون الكتابات في الموضوع وفي جوهره إلّا إذا كنّا نحن الكتبة، نكتب بصدق عمّا يشغلنا ويعمرنا ويؤرّقنا ونطمح إليه وننشد دون مؤثّرات خارجيّة أو توجيهاتٍ غيرِ توجيهات معلّمينا الأمناء الأفذاذ. ولن تصدق الكتابة إلّا إذا طهُر الحبرُ واختِيرتْ الحروفُ البليغة الماضية المبلِّغة.

لقد انكببنا طويلا نقرأ صاغرين مرغمين ما يكتُبُ لنا غيرُنا، وقد آن الأوان لغيرنا أن يقرأ ما تخطّ أقلامُنا وما ينطق به عزمُنا وما يعكسه سلوكُنا وما تهدي إليه قيمنا وتعاليم ديننا وما تترجمه مواقُفنا.

علينا أن نؤمن أنّ مراجعة النّصوص وتغييرَها ليست سوى عَزْمة قارئ، تبدأ عادة بالانتباه إلى الأخطاء التي اقترفها الكاتب وبعدم الارتياح لما كُتِب وعدم استساغة أسلوب الكتابة ومضمونها وتنتهي - عندَ عنادِ الكاتبِ وعدم تواضعه للحقّ وعدم تفاعله مع

القارئ - برفضِه وكسر قلمه وإهراق حبر دواته...