الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

العياشي الفرفار: حين يفقد الخبز قداسته

العياشي الفرفار: حين يفقد الخبز قداسته العياشي الفرفار
المغاربة يرمون 360 مليون خبزة في القمامة سنويا، جزء منها يتم استعماله كأعلاف للماشية، معطيات غير مؤكدة بحسب تصريح رئيس المكتب التنفيذي للفيدرالية المغربية لأرباب المخابز والحلويات.
360 مليون خبزة فائض الاستهلاك السنوي أمر مخيف، لاسيما في ظل أزمة القمح العالمية وتداعيات التحولات المناخية، مما يستدعي فتح نقاش عمومي حول الموضوع، لاسيما في ظل التحولات الصعبة وما يرتبط بها من تحديات، خاصة المتعلقة بالأمن الغذائي في شقيه الإنتاج والاستهلاك.
فائض الخبز ليس مجرد رقم وإنما هو فعل تقافي، لذا فالتفكير في الموضوع ينبغي أن يكون تفكيكا لطبيعة التحولات الثقافية والاجتماعية المرتبطة بالخبز وقيمته لدى الأسر المغربية.
سؤال الهوية في علاقته بالخبز يعكس حجم وطبيعة التحولات المتسارعة، الخبز لم يعد مقدسا ومحفوفا بالقداسة، وإنما أصبح مجرد سلعة ترمى في الأزبال.
360 مليون خبزة ترمى في الأزبال بعد أن كان مجرد سقوط قطعة خبز على الأرض يثير غضب الجميع ويستوجب عقابا فوريا، على الأقل فعل توبيخ، وفي الكثير من الأحيان سببا لمعاقبة من تسبب في سقوط غير أخلاقي لا يمكن التسامح معه.
القاعدة الذهبية التي كانت تؤطر وجبة الفطور: “عدم أكل خبز اليوم إلا بعد أكل خبز البارحة” (مايتكال خبز اليوم حتى يتكال الخبز البايت)، أي إن شرط تناول خبز اليوم مرتبط بتناول خبز أمس، حكاية تعكس منطق القيم الاجتماعية وترسخ الحكامة التدبيرية والحرص على عدم التبذير وتقدير مجهودات الآخرين واعتبار الخبز رمز الحياة الكريمة من خلال:
1-لا شيء ينبغي أن يضيع!
2- من العيب رمي الخبز في القمامة!
3- الخبز ليس شيئا عاديا، إنه نعمة من الله يجب الحفاظ عليها!
فاحترام الخبز يكشف طبيعة القيم الاجتماعية التي عاش عليها جزء كبير من المغاربة، ولو حدث أثناء الأكل أن سقط جزء من الخبز على الأرض يتم التقاطه بسرعة وتقبيله مع دعاء من الله بالسماح على عدم تقدير النعمة.
السبب في تقديس الخبز واحترامه هو أن عملية إنتاجه والحصول عليه كانت صعبة ومعقدة، وكانت الأم هي المسؤولة الأولى على إنتاج خبز عبر مسلسل عمليات دقيقة ومعقدة ومؤسسة على تقسيم العمل، حيث الأب يتكفل بإحضار القمح والشعير والكمون والعدس خلال فصل الصيف، ما يسمى “بمونة العام”، هنا ينتهي دور الأب ليبدأ دور الأم عبر غسل الحبوب وتجفيفها ثم التنقية والتخزين والطحن والغربلة ثم العجين، وأخيرا عملية الخبز وتنظيم طريقة الاستهلاك. وفي حالة وجود فائض، في نهاية الأسبوع يتم تحويله إلى وجبة لذيذة.
الأم هي المكلفة بنمط استهلالك الخبز، وهو ما يقود إلى استنتاج أساسي هو حرصها الشديد على أكل الخبز “البايت”، وعدم بيعه أو حتى رميه مع النفايات المنزلية.
تقدير الخبز في المنظومة القيمية تعكس تقدير جهد الاب وجهد الام. فكانت النتيجة الاساسية ان الخبز كان لا يضيع ولا يتحول الى نفايات، وانما اعتباره بركة ورزق من الله.
اليوم، مفارقة حادة، الخبز أصبح سلعة يشترى من أقرب متجر، لا أحد يعرف مسار إنتاجه ولا أين عجن وكيف عجن، مما يولد علاقة باردة معه، والنتيجة كم كبير من فائض الاستهلاك، مما يقود إلى إنتاج أكوام من الخبز وجد السماسرة فيه فرصة للاغتناء عبر جمعه وبيعه كعلف للماشية!
ربما الفرق بين قيم الماضي والحاضر، أن الخبز “البايت” كان لا يباع لأنه مقدس ويحمل بركة الأم والأب، حتى إن “الطبيقة”، أو الطبق المصنوع من القصب، التي كان يوضع فيه الخبز كانت ملونة وجميلة احتفاء بمصدر العيش الأساسي، أما اليوم فقد أصبح الخبز “البايت” من نصيب البهائم والبقر!
بغض النظر عن تبعات جعل الخبز اليابس مواد للعلف ونتائجها البيولوجية على حيوان عاشب، من خلال تحويل نظامه الغذائي وطبيعة هذا الخبز الذي أصبح يتضمن مواد كيمائية، مما يساهم في بروز مواد سامة من نوع “mycotoxine”، من شأن ذلك الإضرار بصحة المواطن وصحة البهائم.
الخبراء في المجال السلامة البيطرية بؤكدون حجم الاضرار التي ينتجها استعمال الخبز، كمواد علفية للأبقار رغم بعض الفوائد المؤقتة ، الإغلاق بالخبز تمنح للأبقار طاقة كافية من اجل الهضم، لاسيما انه يحتوي على كميات كبيرة من النشويات ،لكن بالمقابل فانه يؤثر على سلامة البقر و تقليص مدة حياته الى النصف، إضافة الى كثرة الدهون الغير الطبيعية و ان الحليب يفقد قيمته الغذائية
أن تصر الأم على احترام الخبز، هو حرص على احترام القيم الصلبة التي ساهمت في بناء شخصية صلبة تحترم قيمها، وتدافع عنها بحرارة وربما بشراسة، هي قيم يتم إنتاجها والعمل على استدامتها عبر مؤسسة الأم المدرسة الأولى. ويستمر مسلسل الإنتاج والتكامل في وظيفة الإنتاج داخل المؤسسات الحاضنة لها والمسؤولة عنها كمؤسسات قوية وفاعلة ولها تأثير ومفعول على سلوك الأفراد؛ فالأسرة والمدرسة والحي والدوار والجماعة والقبيلة والعائلة كلها إطارات لبناء هوية تحترم المشترك الجمعي وتحافظ على القيم الاجتماعية والأخلاقية كإطار للسلوك الجمعي، وهو ما أنتج جيلا صلبا قويا متحكما في جسده وفي لباسه وحتى في عواطفه وقيمه ووطنه وأرضه.
العولمة أخرجتنا من هويتنا الصلبة المسيجة بالأعراق والتقاليد والقيم المتوارثة، واستطاعت أن تصنع لنا هوية سائلة جعلت من الخبز سلعة. فالهوية البديلة والسائلة هي عملية تذويب الثقافة المحلية وإعدامها من خلال تشجيع منطق الاستهلاك، عبر تكوين ثقافة استهلاكية عالمية أحادية المصدر، جارفة، لا تبالي بتنوع القيم ولا باختلاف العادات والتقاليد، تهدف إلى هندسة مجتمعات مقولبة وسائلة بلا أصل وبلا تاريخ.
هي ثقافة تعادي كل من يقف أمام الاستهلاك، لأن العولمة نجحت في ربط اللذة والسعادة بالاستهلاك، فسعادتك رهينة بما تستهلكه، لذا لا نفاجأ بأن المتاجر الفاخرة بواجهاتها الزجاجية تتكاثر، فالسعادة تعني القدرة على الاستهلاك، والنتيجة تراكم الأزبال لأننا نشتري أكثر مما نستهلك، فأصبحنا عاجزين حتى عن تدبير وجمع أزبالنا، ليس لأن عمال النظافة لا يقومون بمهاهم ولكن لأننا ننتج الكثير من الأزبال!
الأكيد أن العولمة نجحت في ترسيخ منطق الربح، والنتيجة أن الخبز الذي كان يعني بركة الأم ومجهود الأب تحول إلى مجرد سلعة يباع في المتاجر صباحا ويباع كخبز جاف لسماسرة العلف مساء.
منطق العولمة لا يهتم بالبعد الثقافي الذي يمثله الخبز في موروثنا القيمي والثقافي، وإنما يهتم بالربح ولا شيء غير الربح، حتى لو كان الأمر على حساب قداسة الخبز وأصبح البقر يفضل أكل البيتزا بدل العشب.
ثقافتنا كانت تحترم الخبز وتقدسه لأنها ثقافة مسؤولة وتقدر الجهد المبذول لإنتاجه، فكان الخبز مرتبطا بصبر الأم وحنانها، هو ما عبر عنه محمود درويش في قصيدته الرائعة “أحن إلى خبز أمي”.
وحتى إن بقي بعض الخبز، فالأمر يعني وجبة لذيذة، تصنع في نهاية الأسبوع وتسمى “تردة”، حيت يتم إعدادها من الخبز المتبقي مع العدس.
أما العولمة فقد جعلت الخبز سلعة يقدم ساخنا للإنسان وجافا للحيوان، المهم أن يستمر الربح ولو على حساب هويتنا وقيمنا.
الأمور الآن تغيرت والجفاف أصبح بنيويا بسبب التحولات المناخية والحرب الأوكرانية الروسية وتأثيراتها على تدفق القمح، الأمر الذي يجعل من تبذير القمح ورمي الخبز في النفايات ليس سلوكا خاطئا وإنما ينبغي تثمينه من خلال البحث عن صيغ لاعادة تدويره لانتاج مواد علفية مراقبة و صحية .
حين تصبح البيتزا وجبة للبقر، فالأمر يكشف عمق الأزمة وفوضى القيم التي نعيشها.