الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

محمد يسين: برلمانيو "جزيرة نِبَّالا "

محمد يسين: برلمانيو "جزيرة نِبَّالا " محمد يسين
كنتَ مستمتعًا بمقامك القهري رغم مرارة المنفى، كنت تستمتع بجلوسك بين زملائك وأنت متربع على تلك الصخرة الصماء.
هي صخرة تطل على منحدرات ومنعرجات الهضاب المتراصة هناك، كانت عيناك تتجولان في الأفق الأزرق، حيث تَوَحَّدَ لَوْنَا البحر والسماء.
تذكرت جلستك الرومانسية في شرفتك، وأنت ترتشف فنجان قهوتك على نغمات زقزقة ووشوشة عصافيرك الجميلة...في بلدك الجميل "جزيرة نِبَّالا".
على حين غرة، أثار انتباهك وزملاءك الستة سرب من طائر اللقلاق محلقين في الجوار، حين طوحوا في اتجاهكم بمجموعة من الجرائد والأوراق، وحافظة للأقلام.
تذكرت قول المكلف بحراستكم في تلك الرقعة النائية، في آخر لقاء له معكم بعد التهجير حين أخبركم قائلا:
لكي تبقوا على صلة بالأخبار ببلدكم، وأنتم على مسافة بعيدة منه، سنبعث إليكم بعض ما يثلج ذاكرتكم بما استجد من أخبار محلية.
وزعتم أنواع الجرائد الشهرية والأسبوعية واليومية بينكم، بدأت تتصفح جريدة في بلادكم هناك على مسافة بعيدة، مؤرخة بتاريخ 19 يوليوز 2018، تلك التي كانت من بين ما لوح به اللقلاق، على نغمات رذاذ الأمواج المنتهية إليك، كنت متنقلًا بعينيك عبر العناوين ذات البنط البارز، كانت أصوات اللقالق ترسل سمفونية تطرب مسامعكم وهي في طريق العودة إلى الجزيرة، خلتها تدرك أهمية التعبير عما يخالجك ورفاقك في تلك الرقعة (المنفى)، من أفكار وهواجس وذكريات ومواضيع تستأثر بالاهتمام، على مساحة جغرافية عصية عن الفهم.
أثار انتباهك عنوان بالبنط الغليظ مفاده، "دفع نواب البرلمان إلى قراءة الكتب في "جزيرة نِبَّالا"، ابتسمت وتساءلت في نفسك: أيُعقل أن القوم هناك في حاجة لدفع من تم انتخابهم لتمثيل الشعب على أعلى مستويات القرار، للقراءة؟
سؤال رفرفت له نوارس الجزيرة /المنفى، مرددة أصواتًا مُجلجِلة. حينئذ خلتها تتساءل مثلك صائحة: يا عجوز كيف سيتم دفع برلمانيات وبرلمانيين للغوص في فعل القراءة؟
لم يطل تساؤلك أيضًا، وأنت تَقرأ بين السطور. نطقت فقرات نص الخبر المكتوب، المرفق بصورة جماعية، تفيد أن تحفيز البرلمانيين على القراءة سيتم عبر اتفاق بين "مسؤول رفيع المستوى" و"مدير لخزانة عامة" على إدراج الكتب في ثقافة البرلمانيين، لَعَلَّ النُّوَابَ يَشْرَعون في تَقْوية مَعارفِهم بِالكُتب.
استبشرت أنت بالمقترح، لقناعتك أنت وزملاءك بتلك الجزيرة بالقول المأثور: " عَدُوٌ قَارِئ، خَيرٌ من صَديق جَاهل.
لكن زملاءك استغربوا لهذا الاعتراف من داخل الدار، كما جاء في محكم القول، سورة يوسف: "وشهد شاهد من أهلها". خِلْتُم جميعكم أن مَعشر النوارس يحاصرونكم بأسئلة محرجة، من قبيل:
- ألم يتوفر القيمون على شؤون البلاد والعباد ب "جزيرة نِبَّالا" على مستوى تعليمي مناسب؟
- ألم يتوفروا على كفاءات في المجال الثقافي والاقتصادي والتدبير والحكامة؟
- ألم يخضعوا لانتقاء أولي وانتقاء نهائي، عبر تصفيات بناء على دراسة لسيرتهم الدراسية والمهنية؟
وأنت تَتَأمَلُ جُرْأَة عصافير المنفى ذاك، خلتها تبدد استغرابك وزملاءك باستحضار مصدر معلوماتها هُدْهُدُ سليمان الحكيم، الذي يأتي بالخبر اليقين.
على النقيض من استحضار تلك العصافير لحكمة الهُدهد النبيه، استحضرت أنت وأصدقاءك أَحَطَّ مستويات مناقشات وسجالات عرفتها نقاشات البرلمانيات وإخوة لهن في المهنة في كثير من الجلسات الساخنة هناك في "جزيرة نِبَّالا".
هي أسئلة أحرجتك قبل إحراج زملائك في المنفى، من طرف عصافير، ها لكم ما تتميز به من تَبَصُّرٍ.
كنتَ أنت مُلِمًا بأمور الطير وحرصها على النقل السلوكي/ الحدسي لصغارها (إن جاز القول)، وذلك من حيث كيفية التغريد وكيفية الطيران والبحث عن الرزق، والتكافل فيما بينها.
أليست العصافير سَلِيلَة الهُدْهُدِ المتبصر، الذي أتى بالخبر اليقين عن مملكة سبأ، كما "الغراب" الذي علَّم قاتلًا لأخيه كيف يواري جثته. فوجئت لما أخبرتكم عصافير المنفى قائلة:
أتدرون معشر البشر، كيف تنتظم هجرتنا حين يضيق بنا المكان ويشح الرزق في البلد؟
قُلتَ ورفاقك في استغراب:
منكم معشر الطير نأخذ الحكمة.
حينها خلت كبير الطير يوضح:
إن تِرحَالنا ينتظم بشكل غريزي، يعجز الفرد منكم معشر البشر على تطبيقه.
صاح زميلك محفّزا كبير الطير على البوح أكثر...
عقب كبير الطير موضحًا:
إن سفرنا ينتظم على شكل مثلث لا يخلو من دلالات قوية، لتفادي قوة الرياح أولًا، وللتغلب على قوة التيارات الجوية ثانيًا. تشكل أصواتنا وكيفية تغيير رفرفة أجنحتنا أغاني وأهازيج مشجعة على الطيران والتغلب على مشقة السفر حين يأخذ العياء من أحدنا مأخذًا، أو يصيبه طارئ، مباشرة تُنْتَدبُ ثلاثة طيور لمرافقته ومساعدته على الوصول إلى مكان آمن، ولا يغادر ثلاثتهم حتى ييأسوا من حالته.
بعد تقليب الأمر على أوجه عدة، ومقارنة سلوك وعادات بني البشر ومعشر الطير.
تناسلت مجموعة من الأسئلة من قبيل:
- لماذا لم يفكروا في بلد جزيرة نِبَّالا -كمواطنين- في مقاييس معقولة لاختيار القيمين على شؤون البلاد والعباد؟
رَجَعْتَ للجريدة، تَأمَّلْتَ كثيرًا النص المصاحب لتلك الصورة الجماعية لثلة من المسؤولين هنالك، فَاسْتَقرتْ عيناك على جملة " لَعَلَّ النواب يلجؤون لتقوية قدراتهم بالكتب".
ركزت وأصدقاءك تفكيركم على كلمة "لَعَلَّ" بتشديد اللام، المفيدة للتمني المشروط، والذي يحمل في طياته نسبة مما لن يتحقق.
بحثت لعصافير الجزيرة عن أجوبة مقنعة لأهمية مستويات القيمين على تدبير شؤون البلاد هناك بتلك الجزيرة، تصفحت عناوين أخرى بالجريدة، علك وأصدقاءك تجدون ما يشفي غليل السؤال لدى معشر الطير من جهة، أو لما يشفع للبرلمانيات والبرلمانيين، سوء الظن والحفاظ على ماء الوجه أمام عصافير جزيرة نِبَّالا وإخوة لهم في المنفى، تلك العصافير التي جُبِلَتْ على حب السؤال، وحب موطنها والحرص على سلامة فراخها.
وجدت على يسار الصفحة الخامسة من الجريدة، أمام عنوان بالبنط الغليظ: سيناريو "إبقاء معاشات البرلمانيين في إخراجه للتطبيق" أحالك المشهد، على مقولة: "الآن يمكن لأبي حنيفة أن يمد رجليه"، صاح عصفور بالقرب منك قائلًا: "كَمْلاَتْ البَاهْيَة أعموا". حينها أدركت حقيقة تصريف فعل القراءة على مختلف مواقعه ومراتبه في بلاد جزيرة نِبَّالا، علمًا بأنه حين يتجمد تصريف هذا الفعل، عند البعض من القيمين على شؤون البلاد هناك، حتمًا تتجمد العقول، ويتلوها جمود معظم أو كل المشاريع التنموية، وتصريفها بشكل منحرف لمواقع غير التي رُصِدَت لها.
حين أتيت على آخر قراءتك لوحت بالأرواق لعصافير موطن المنفى... بعد ساعة وجدت النص كله ثقبًا متراصة. أدركت ثانية أن للعصافير رأيًا حَصِيفًا فيما جرى ويجري بجزيرة نِبَّالا، وغيرها من المواقع المتشابهة.
 
ملحوظة:
عن المجموعة القصصية " خواطر حمودة في رصد الوقائع الفريدة" ستنشر قريبا.