الجمعة 29 مارس 2024
فن وثقافة

المغرب كان سباقا لصناعة الأسلحة النارية منذ فترة الدولة المرينية (2)

المغرب كان سباقا لصناعة الأسلحة النارية منذ فترة الدولة المرينية (2) من ذاكرة متحف الأسلحة لمدينة فاس

متى بدأ المغاربة يستعملون آليات القصف بكرات ملتهبة بالنار؟ سؤال أجابت عليه عدة وثائق ومراجع ومصادر تاريخية، ضَمَّنَهَا بحث قيم نشر سابقا بـ "مجلة دعوة الحق الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية (العدد 130)"، حيث أكد (البحث) على أن ملوك الدولة المرينية قد استخدموا آلات قاصفة، تقذف الكرات الملتهبة، وترمي الحصون والأسوار. ومن بين ملوك الدولة المرينية نذكر كل من يعقوب بن عبد الحق المريني، وأبي الحسن علي بن أبي سعيد المريني، ثم أبي عنان بن أبي الحسن المريني.

 

وقد اعتمد البحث التاريخي في موضوع (صناعة الأسلحة النارية في المغرب) على حجج تاريخية دامغة حيث يتبين من خلال ذلك أن المغرب كان سباقا لاستعمال واستخدام الأسلحة النارية وإطلاق تسميتها بمقذوفاتها بالبارود، اعتمادا على المؤرخين من بينهم ابن خلدون والناصري وزيدان.

 

في الحلقة الثانية من سلسلة حلقات جريدة "أنفاس بريس" سنتعرف على أهم منجزات صناعة الأسلحة النارية (المدافع) خلال فترات حكم السعديين، وكيف طوروا هذه الصناعة الحربية، وبناء الأبراج وتنظيم فرق الجيوش ذات الصلة بتخصص المدفعية.

 

أبو العباس الوطاسي يشيد معملا للسلاح بالقصر الملكي بفاس

في الحلقة الأولى من هذه السلسلة، أكد البحث القيم على أن المغرب كان سباقا لاستعمال واستخدام الأسلحة النارية، مع تسمية مقذوفاتها "بالبارود" من طرف كل من المؤرخين (ابن خلدون والناصري وزيدان). حيث وقفنا على أن الآلات القاذفة للبارود كانت تمسى بـ "الأنفاظ"، عند مؤلف (فيض العباب)، وفيما بعد أطلق عليها اسم "المدفع"، على اعتبار أنه في النصف الثاني من المائة التاسعة للهجرة، تحدث مؤلف مغربي عن تجهيز مدينة طنجة بالألفاظ العظيمة والمدافع.

من الطبيعي أن يغوص البحث في النبش عن أماكن المعامل التي كانت تنتج هذا النوع من الأسلحة في سياقها التاريخي حيث أورد البحث سؤال الإنتاج بالقول: "ولا شك أن هذه الأسلحة النازية (بارود) و (مدافع) و (بندقيات)، ثلاثتها كانت تستلزم قيام معامل مغربية لإنتاجها".

في هذا السياق يستدرك الباحث قائلا: "غير أننا لا نعثر على ذكر لهذه المعامل إلا في النصف الأول من المائة العاشرة، حيث بنى السلطان أبو العباس الوطاسي معملا للسلاح بالقصر الملكي من فاس الجديد، وصار يستخدم لإنتاج الأنفاظ والبندقيات والبارود، زيادة على صناعة الأقواس والنبال وغير ذلك".

العصر الذهبي لصناعة الأسلحة النارية

حسب نفس البحث فقد وصف فترة حكم الدولة السعدية بـ "العصر الذهبي لهذه الصناعة"، مستندا على ذكر أقدم مدفع مغربي وهو الذي يرجع إلى "عهد محمد الشيخ الأول عام 952 هـ". وبعد ذلك ارتفع منسوب صناعة المدافع حيث أشار إلى : "تكاثر هذا الجهاز فيما بعد بالمغرب السعدي، فقد هاجم عبد الله الغالب مدينة الَبْرَيْجَةْ (مدينة الجديدة حاليا) بأربعة وعشرين مدفعا في مقدمتها واحد يسمى ميمونة، وكان في غاية الكبر". وذكر في هذا السياق بأن مستودعات الأسلحة الحربية كانت تغص بقطع المدافع حيث أكد على أن "محلات محمد المتوكل كانت تشتمل على أكثر من مائة وخمسين نفظا (مدفعا) ".

دار العدة بمراكش تغص بقطع المدافع

وبخصوص فترة عبد الملك المعتصم يؤكد البحث على أنه قد "اهتم (أكثر) بإنتاج المدافع التي كان عارفا بصناعتها وأشرف بنفسه على إعداد نحو ثمانية منها". أما عن مستودعات الأسلحة والذخيرة الحربية فقد أورد البحث بأن "المنصور السعدي هو الذي بنى "دَارْ اَلْعَدَّةْ" على مقربة من قصر البديع بمدينة مراكش". حيث تم الاستشهاد بما قاله الفشتالي عنها: "وأما ما يفرغ مع الأيام من مدافع النار ومكاحلها بدار العدّة المائلة قرب أبوابهم الشريفة من قصبتهم المحروسة... فشيء غصت به الخزائن السلاحية والديار العادية".

فرق جيش قاذفات شواظ النار

من جهة أخرى تحدث البحث عن أسماء فرق الجيش وكتائب المدفعية التي أنشئها المنصور السعدي في فترة حكمه حيث أكد على أن الجيش المنصوري كان يضم "أربع فرق مدفعية تسمى بجيوش النار، أو عساكر النار". استنادا على ما أورده الفشتالي بالقول: "والترتيب الذي جرى عليه العمل في عساكر النار بالحضرة: أن يتقدم، أولا  جيش السوس، ثم يردفه جيش الشرافة، ثم يردفهما العسكران العظيمان، عسكر الموالي المعلوجين ومن انضاف إليهم، وعسكر الأندلس ومن لبس جلدتهم ودخل في زمرتهم".

وارتباطا بالوصف الدقيق لأثر الأسلحة (النارية) القاصفة ميدانيا في تلك الفترة التاريخية، وردت فقرة جميلة في البحث تقول: "وعن مدى أثر الآلات النارية في المواقع، يسجل نفس المصدر (الفشتالي) أن جيوش المنصور: (قاذفة بشواظ النار، وحصباء البندق المنهل بسحائب البارود المركوم. تزجيه الرعود القاصفة، والصواعق الراجفة).

أبراج الحراسة ويقظة عسكر المدفعية

أكد البحث على أن عهد المنصور السعدي يرجع له الفضل على مستوى تشييد وبناء أبراج اليقظة العسكرية بالمدفعية، حيث يؤكد على أن الفترة عرفت "بناء أٍربعة عشر برجا مدفعيا تسمى (بستيونات)، وتتنوع بين أربع مدائن مغربية وهي كالتالي: "واحد منها في مدينة تازة، واثنان بمرسى العرائش، وتسعة تحف بأسوار فاس الجديد، واثنان خارج فاس العتيق على مقربة من باب الفتوح وباب محروق، وقد كان هذا الأخير يعرف ببرج النار، تدليلا على مهمته المدفعية"، واستبدل فيما بعد باسم "برج النور".

وعمل السلطان على تجهيز الأبراج وتنظيمها حيث أفاد البحث بأن المنصور السعدي قد "جهز هذه الأبراج الأربعة عشر بالمدافع، وأسكن بها الحاميات المختصة، وكانت مدافع حصني فاس القديمة تقذف بالبارود والنار، وبالأكر المعدنية والحجرية". وحسب نفس البحث القيم فإن المنصور السعدي يحسب له: "أن في عصره ظهرت بالمغرب عادة ضرب المدافع بمناسبة العيدين: (عيد الفطر والأضحى، وعند ورود بشارة).

في هذا السياق استشهد الباحث بقول الفشتالي عن مدافع فاس: "وإذا استهلت رعودها في العيدين من المصلى، أو لورود بشارة عظمى، فلا تسأل عن دوي الأرض وجفانها...ويمتد على البلدين ركام البارود كأنما هو ليل مطبق".

"العز والرفعة والمنافع، للمجاهدين في سبيل الله بالمدافع"

في نفس السياق التاريخي استمر نشاط هذه الصناعة إلى أيام ابنه زيدان، ـ حسب البحث ـ حيث وظف السلطان زيدان في بلاطه "الشهاب الحجري" بصفته ترجمان وكاتب باللغة الإسبانية، وقام هذا – بعد رحلته عن المغرب بترجمة عن الإسبانية لكتاب في فن المدفعية وسمى الترجمة: "كتاب العز والرفعة والمنافع، للمجاهدين في سبيل الله بالمدافع". وقد جاء في خاتمة الكتاب عن السلطان زيدان أنه كان يبذل عطاء سخيا لمسيحي كشف له عن بعض أسرار الصناعة المدفعية، والظاهر أن نشاط صناعة الأسلحة النارية لم يتوقف نهائيا بعد وفاة زيدان، فقد أفاد مصدر أجنبي أن هولندا كانت تستورد من المغرب البارود وملحه، لاسيما خلال محاربتها للإسبان عام 1628م، (ومن المعروف أن هذا التاريخ يوافق أيام عيد الملك الثاني بن زيدان: 1038 هـ).

 

يتبع