الجمعة 29 مارس 2024
فن وثقافة

في الحاجة إلى جرعة منشط "تَامَغْرَبِيتْ" لإحياء وحماية تراث فن العيطة الحوزية (2)

في الحاجة إلى جرعة منشط "تَامَغْرَبِيتْ" لإحياء وحماية تراث فن العيطة الحوزية (2) الشيخ الحسين سطاتي بجانب مجموعة العيطة الحوزية

هل يمكن اعتبار فن العيطة الحوزية قد أُدْخِلْ لثلاجة التجميد والموت والتلاشي؟ كيف هو السبيل لرد الإعتبار لفن راق على جميع المستويات وإخراجه من منطقة التهميش والإندثار؟ لماذا يتم إقصاء فن العيطة الحوزية من دائرة اهتمامات وزارة الثقافة والتلفزة والإعلام العمومي السمعي البصري، على مستوى التوثيق، والتشجيع والبحث عن الخلف الفني من الشباب "الْمَوْلُوعْ" بمنطقة الحوز فنيا لتحصين نصوص العيطة الحوزية الرائعة وطريقة عزفها وإيقاعها وأدائها المتميز؟؟ هي أسئلة وأخرى تبحث جريدة "أنفاس بريس" عن أجوبة شافية لها، على اعتبار أن التراث الغنائي الشعبي بكل خصوصياته وروافده يساهم في تحصين الهوية الثقافية والفنية.

 

وقد أمدنا بأوراق هذه السلسلة من حلقات جريدة "أنفاس بريس" الشيخ الفنان الحسين سطاتي الذي استعان بمراجع الدكتور حسن البحراوي في البحت والتوثيق، على اعتبار أنه يعد من أبرز أشياخ فن العيطة والغناء الشعبي، كونه يربط بين الممارسة الفنية والإبداع والكتابة في مجال تراث الغناء الشعبي.

 

في الحلقة الثانية من أوراق العيطة الحوزية نقدم للقراء معلومات ذات الصلة بهذا الفن المغربي الأصيل، على مستوى النشأة والمجال وبعض النصوص الغنائية وعلاقتها بالأحداث والوقائع التاريخية، فضلا عن استحضار الرائدات والرواد من أشياخها، والتعريف بآلاتها الموسيقية واللباس التقليدي المرتبط بـ "مَشْيَخَتِهَا".

 

العيطة الحوزية...موضوعها وإيقاعها ودلالة رقصاتها الشعبية:

تقوم العيطة الحوزية على إيقاع غالبا ما يبدأ رتيبا عند الانطلاق، ولكنه يمضي في التصاعد تدريجيا إلى أن يبلغ لحظة الذروة التي تصدح فيها الأصوات والحناجر بما يشبه البكاء والنحيب. وعلى مستوى موضوع النصوص الغنائية، تكاد العيطة الحوزية تختص في محور تجعله محور اهتمامها وهو أخبار الحروب والنزاعات المسلحة مع المستعمر، وما أسفرت عنه من خراب وضحايا وانقلاب في القيم.

 

كما أن الرقص في العيطة الحوزية له دلالات رمزية، يقوم بها الرجل والمرأة كل في دائرة اختصاصه، حيث كان المجتمع الحوزي الرحماني في الأول مجتمعا محافظا، لا يسمح باختلاط الرجال بالنساء خلال الحفلات، فنجد أحيانا الرجال الراقصين يرتدون ملابس نسائية ويضعون النقاب على وجوههم ويقومون بالرقص، كما هو الشأن بالنسبة للمجموعة الفنية المتألقة "أولاد احمر"، التي تقوم بعروضها إلى حد الآن بساحة جامع لفنا بمراكش.

 

 تعتمد رقصة العيطة الحوزية على حركات تمثيلية مستوحاة من الأعمال الزراعية السائدة بمحيط مجالها الجغرافي، كطريقة شد المحراث التقليدي أتناء الحرث، أو طريقة نثر وزرع البذور، وكيفية فتح السواقي الطينية للماء بالمعول، ثم إلى طريقة حصاد الزرع بالمنجل وتشكيل الغمرة، وطريقة نفض الثمار من الأشجار، وكنس الأرض بسعف النخيل، وطريقة غزل الصوف بالمغزل على الفخذ، وطريقة غسل الصوف على صخور الوادي، وتقليد بعض حركات أرجل الطيور خلال فترة التزاوج المستمدة منها رقصة "الْقَعْدَةْ"، وحتى الصيّاح الذي يصدره المزارعون لفزع الطيور التي تحط وسط المحاصيل الزراعية، وكذا التصفيق المسترسل" الرَّشْ"، المصحوب أحيانا بالزّغاريد، وبالنداء والصيّاح المتتابع كما هو الحال في طريقة إخافة وإخراج الطرائد من مخابئها وجحورها "التَّحْيَاحْ".

 

غالبا ما يتأجج الرقص في جزء "السُّوسَةْ" إلى "السَّدَّةْ" أو ما تسمى ب "الَقُفْلْ"، من العيطة الحوزية، حيث يشتد منسوب الإيقاع، وتتعالى الأصوات كأنها النّحيب والبكاء، ويدل هذا التصاعد في الأصوات على فرط الانسجام مع الرقص. فيخترق هذه الجلبة صوت نسائي (صريري)، وإن لم تكن امرأة يعوض بصوت رجل شبيه بصوت المرأة تتخللها عبارات دالة على روعة الأداء والانسجام التام.

 

وعرفت الرقصة الحوزية برقصة "الصِّينِيَةْ والْكِيسَانْ" التي اشتهرت بها منطقة "أحْمَرْ" وهي رقصة حكر على الرجال، في إشارة إلى الترحيب بالضيوف والكرم وحسن الضيافة. ويتقاسم هذه الرقصة كذلك مجموعات الفن البلدي الفيلالي، حيت يرتدي الرجل الراقص زيّا نسائيا، ويستوجب أن تتوفر فيه صفات مثل الرّشاقة والخّفة واستقامة الجسم ومرونته، ولطافة الأقدام ولين المفاصل، وحسن الحركة والتمايل، وأن تكون حركاته متناغمة مع الإيقاع، حيث يقوم بعرضه بدور انفرادي، إذ ينفصل عن الجماعة حاملا الصينية يتوسطها البَرَّادْ، والكؤوس مملوءة بشموع مشتعلة بمختلف الألوان، ويؤدي بمهارة عالية حركات بهلوانية، راقصا متماشيا مع الايقاع والميزان الخفيف المتوسط، يرقص أمامهم في مواجهة الحضور.

 

الآلات الموسيقية والإيقاعية واللباس التقليدي عند رواد العيطة الحوزية

اعتمدت العيطة الحوزية، في بدايتها على آلات موسيقية بسيطة إلى بدائية، (لَوْتَارْ، و طَعْرِيجَةْ أو كَمَنْجَةْ، ومْقَصْ ومَهْرَازْ... "مزمار" قصبة مشدودة إلى قرن عجل، وصِينِيَةْ وكأسان...)، وكانت تقتصر في البداية على آلات بسيطة مما يجعل الصوت المرتفع الصادح حاضرا بقوة، و ترتكز على الكلام، وليس على الفرجة فحسب، وأقصت في الأول آلة الْبَنْدِيرْ، إلى أن صارت تمارس كباقي العيوط الأخرى بآلات حديثة غربية وعصرية مختلفة أشكالها وأنواعها.

 

لقد اشتهرت العيطة الحوزية بمناطق تتميز بطبيعتها الخلابة والساحرة، وعرف مجالها بكثرة وتنوع مغروسات أشجار الفواكه، وترائها الحيواني "الَكْسِيبَةْ"، وبتضاريسها المتنوعة؛ (جبال، هضاب، تلال، وديان، عيون مائية، سواقي...) مع وفرة المياه الجوفية والسطحية، على امتداد وادي أم الربيع، إلى واد تانسيفت الحوز، ثم إلى حدود سهل دكالة، إذ تنتشر بمنطقة صخور الرحامنة وبلاد أحمر وتصل إلى حدود قلعة السراغنة، ومنها إلى حدود تادلة.

 

ومثل كل أنماط العيطة المغربية، فإن العيطة الحوزية بدورها أسس لها وبصم تألقها عدة أشياخ وأعلام قدامى وجدد، وقد رحل جل شيوخها من الرعيل الأول والثاني ممن كانوا يتقنون أدائها وحفظ متونها. وعرف هذا النمط العيطي العديد من الفنانين نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:

 

الرواد من أشياخ الرعيل الأول:

(الشيخ بَنْ حْمَامَةْ، الشيخ الْحَرْبِيلِي، الشيخ مْبَّارَكْ الزَّغْرَاتْ، الشيخ الطَّاهَرْ زَعْطُوطْ، الشيخ وَلْدْ كَرَّدْ، الشيخ سَالَمْ الَمْنَبْهِي، الشيخ عْبِيدَةْ الطَّلْحِي، الشيخ عَبْدْ السَّلَامْ الْغَنَّامِي، الشيخ امْحَمَّدْ وْرًمْ، الشيخ صَالَحْ بُوتَارْتِيَةْ، الشيخ الْمَصْطَفَى وَلْدْ الجُّوطِيَةْ، الشيخ الْمَحْجُوبْ الرَّحْمَانِي، الشيخ الجِّيلَالِي السَّرْغِينِي، الشيخ الجِّيلَالِي الْحَامُونٍي، الشيخ أَحْمَدْ الطْوِيلْ...)

 

الرواد من أشياخ الرعيل الثاني:

(الشيخ الْمَصْطَفَى الْبِيضَاوِي، الشيخ لَكْبِيرْ الصَّنْهَاجِي، الشيخ أَحْمَدْ وَلْدْ الْخَبْشَةْ، الشيخ حَسَنْ الدْرِيوْكِي، الشيخ الْمَحْجُوبْ السَّرْغِينِي، الشيخ صَالَحْ الطْوِيلْ، الشيخ الْمَصْطَفَى الرَّحْمَانِي، الشيخ حَسَنْ الْقَلْعَاوِي، الشيخ بُوجَمْعَةْ الْمَخْلُوفِي، الشيخ سْلِيمَانْ لَشْهَبْ، الشيخ الشَّرَّادِي، الشيخ الْمَصْطَفَى الَمْعَمِرِي...)

 

وقد لعبت المرأة/ الشيخة دورا مهما إلى جانب الرجل في هذا الميدان فمن الشيخات اللواتي أبدعن في فن العيطة الحوزية، وتركن بصمتهن في الساحة الفنية نذكر منهن:

 

(الشيخة الْخَوْضَةْ، الشيخة التَّايْكَةْ الرَّحْمَانِيَةْ، الشيخة فَاطْنَةْ الزْبُودْ، الشيخة الطَّاهْرَةْ، الشيخة أُمْ هَانِي بَنْتْ مُجِيبْ، الشيخة خَدُّوجْ الْحَمْرِيَةْ، الشيخة زُبِيدَةْ حَبُّوطَةْ، الشيخة زِينَبْ مْسِيكَةْ، الشيخة الْهَاتْرَةْ بَنْتْ الْحَمْرِي، الشيخة رَبِيعَةْ بَنْتْ لَعْظَيْمْ، الشيخة لَطِيفَةْ الْمَخْلُوفِيَةْ، الشيخة فَّيْطْنَةْ الْحَمْرِيَةْ، الشيخة الْفَقْرِيَةْ، الشيخة الضَّاوْيَةْ الْغَنَّامِيَةْ، الشيخة الْحَامُونِيَةْ، الشيخة عَايْدَةْ الرَّحْمَانِيَةْ، الشيخة الزُّهْرَةْ الْبُوشَّانِيَةْ، الشيخة سُعَادْ الرَّحْمَانِيَةْ، الشيخة الْخَادَمْ، الشيخة سُعَادْ الَكْحَيْلَةْ، الشيخة خَدِيجَةْ الْمَرَّاكْشِيَةْ...)

 

يتميز لباس شيخات وشيوخ العيطة الحوزية بأصالة الفن والتراث الرحماني في علاقة بمفهوم "الْمَشْيَخَةْ"، حيث يتدثر أعضاء المجموعات الحوزية (ذكورا ونساء) بزي لبلاد الأصيل المتمثل في: (الجلباب الأصيل، والعمامة أو الطاقية (عوض الطربوش) والبلغة، والشكارة الجلدية) أما النساء الشيخات فيلبسن: (التكشيطة، والقفطان، والدفينة، والسبنية، والدرة على الرأس وشربيل الصم). لكن للأسف صرنا في يومنا هذا نجد المجموعات الغنائية تخرج عن العادة وترتدي لباسا عصريا أو إداريا بربطة العنق ولباسا شبابيا بسروال الجينز والقمصان القصيرة والأحذية الرياضية.

 

الشيخ "بَنْ حْمَامَةْ" رائد فن العيطة الحوزية

سيظل هذا النمط العيطي، مدينا بالكثير للشيخ الرائد "بَنْ حْمَامَةْ" رحمه الله، على الإشعاع التراثي الذي منحه لفن العيطة الحوزية، وذلك من خلال إحيائه للحفلات بالقصور والرياضات، حيث عرف عنه "شَيْخْ الْقِيَّادْ"، وبفضله يرجح أن العيطة الحوزية كانت الأسبق إلى التسجيل على يده، حيث ظهرت في أسطوانة منذ سنة 1921، ثم فيما بعد عبر تسجيلات الشيخ "ابْرَاهِيمْ الْحَرْبِيلِي"، والشيخ "طْوِيلْ" والشيخ "فْلِيفْلَةْ" والشيخ "كَرْتَالْ السَّرْغِينِي".

 

هل سيجود الزمن بشيخ من طينة الشيخ عبد الكبير الصنهاجي؟

لقد عرفت فترة بداية التسعينات، فترة توهج من جديد لتراث فن العيطة الحوزية، مع الشيخ الراحل "عَبْدْ لَكْبِيرْ الصَّنْهَاجِي" رحمه الله، المعروف بلقب "لُكبيًر" (تصغير لاسم عبد الكبير)، على اعتبار أنه كان شيخا مبدعا رغم صغر سنه. وبفضل هذا الفنان الهرَم، الذي وصلنا عبره نماذج العيطة الحوزية، بـ "رْبَاعَةْ الشِّيخَاتْ"، بكل الاحترافية والالتزام بالأصول من خلال صوته الرخيم، بنبراته الشّجية، حيث جدد في هذا الفن، وعب دورا كبيرا في النقلة النوعية التي أعطاها لفن العيطة الحوزية، وجعلها تنافس باقي العيوط، بفضل عزفه المتميز على آلة الكمنجة وإبداعه (عزفا وكلمات وأداء)، وتففنه في وصلات الموسيقى الصّامتة "الْخِيلَازْ".

 

وقد عمد إلى الاقتباس من معزوفاته كبار الفنانين الشعبين المغاربة، حيث كان مصدر إلهام للعديد منهم، إضافة إلى حرصه الشديد على "الْحَطَّةْ"، بمعنى أناقة ومظهر الفرقة بشكل راق، بما في ذلك أناقة أزياء الأشياخ والشيخات وسلوكهم خلال المناسبات.

 

 واشتهر الشيخ "لُكْبِيَرْ" بحفظه وأدائه المتميز لكل أنماط العيطة المغربية، (العيطة الْحَوْزِيَةْ والزَّعْرِيَةْ والْحَصْبَاوِيَةْ والْمَرْسَاوِيَةْ والْغَرْبَاوِيَةْ...)، إضافة إلى الأغاني الشعبية المستحدثة التي مازالت تغنى إلى يومنا هذا، ويرجع له افضل أيضا في وصول فن العيطة الحوزية إلى المركز بما في ذلك سهلي الشاوية ودكالة...ليستهوي جميع الأذواق، بعدما كان محدود الانتشار.