الخميس 18 إبريل 2024
فن وثقافة

أوراق تاريخية.. تعليم الرماية وصناعة البارود على يد أشياخ أحمر بجنوب المغرب (4)

أوراق تاريخية.. تعليم الرماية وصناعة البارود على يد أشياخ أحمر بجنوب المغرب (4) المرحوم العلامة محمد المنوني ومشهد من طقس إطلاق البارود

أرّخت سنة 1972 ، لبداية إصدار مجلة الأبحاث العامة "الباحث"، وهي السنة الأولى التي رأى فيها النور المجلد الأول الذي أصدرته وزارة الثقافة والتعليم العالي والثانوي والأصيلي وتكوين الأطر ـ مديرية الشؤون الثقافية بالرباط ـ

وكان ضمن مواد مجلة "الباحث" وثيقة تاريخية ذات أهمية بالغة على مستوى التقديم والتحقيق، عنوانها البارز: "قطعة عن نشاط الرماية الشعبية بالجنوب المغربي"، على اعتبار أن صاحب هذا العمل التوثيقي هو العلامة محمد المنوني، والذي كان يعد من أعلام المغرب، بصفته حارسا على التراث الثقافي، بعد أن خبر المخطوطات والوثائق والكتب، وأصبح رحمه الله خزانة متحركة، ومرجعا أساسيا لكل الدارسين والباحثين في التاريخ والتراث.

في هذا السياق تنشر جريدة "أنفاس بريس" الحلقة الرابعة من مساهمتها في النقاش العمومي الذي تعرفه الساحة الثقافية والفكرية عامة، والمشهد التراثي المغربي خاصة، بعد إدراج فن التبوريدة ضمن قائمة التراث اللامادي بمنظمة اليونيسكو، على اعتبار أن الوثيقة التي بين أيدينا تشكل مرجعا أساسيا لتاريخ مدارس تعليم "الرِّمَايَةْ"، وشيوخها من أهل الحكمة الذين برعوا في صناعة البارود.

المرحوم العلامة محمد المنوني يرصد صناعة البارود بالجنوب المغربي

خصصنا الحلقة الرابعة من سلسلة حلقات "أنفاس بريس" للتعريف بقيمة العمل التوثيقي والتاريخي الذي قام به المرحوم العلامة الأستاذ محمد المنوني بعد تقديمه وتحقيقه لقطعة "ظاهرة الرماية الشعبية بالجنوب المغربي" الواردة ضمن منشورات المجلد الأول لمجلة "الباحث" سنة 1972، (في هذه الحلقة)، سنتناول الفصل الثالث لبسط مجموعة من المعلومات المهمة على مستوى طريقة صناعة البارود، حسبما أخذها المؤلف عن أشياخ أحمر وغيرهم من أهل الفن والحكمة، حيث ذكر في نفس الوثيقة أنواع ملح البارود المستخرجة من الأرض المغربية وطريقة تقطيرها وطبخها، وصفة سحق البارود.

تجارب علمية تخضع للعقل في مختبر صناعة البارود على يد أشياخ أحمر

أورد المؤلف في القطعة التي بين أيدينا عدة تجارب علمية قام بها أهل (الحكمة) الرّماية، لصناعة البارود بعد إجراء عدة اختبارات دقيقة على نوع خاص من الملح، مع إضافة الكبريت والرماد (الَحْمُومْ)، ومزج الخليط بمقاييس وطريقة جد مضبوطة، ثم الإنتقال بعد ذلك لصناعة جعب المدافع (المكاحل) واستخبار نتائج ذلك بتأكيده على ما يلي:

"في صَنْعَةِ البارود المحدث في زماننا، أخرجه بعض الحكماء، قيل أنه كان يصنع حكمة وقطر الملوحات كلها، فلما قَطَّرَ ملحة الكهوف وضع منها شيئا في النار يستخبرها، هل تفعل مثل ملحة الطعام أم لا؟".

وعند القيام بهذه التجربة (أي وضع الملح المقطرة في النار لاستخبارها) استخلص أهل الحكمة نتيجة ملموسة تؤكد ما يلي: "فقبضت فيها النار وخرج منها لسان أزرق، مثل نار الكبريت". هكذا كانت المقارنة بين نارين حيث أضاف بقوله: "هذه النار تشابه نار الكبريت، فيصلح أن أضيفها، فأضافها إليها، ودقها دقا نعيما واستخبرها بالنار، فاندفعت اندفاعا قويا ظن أن لو كانت الجبال فوقها لدفعتها من كثرة قوتها وجهدها".

وقد أخضع أهل الرماية والفن والصناعة تجاربهم العلمية للعقل، حيث ورد في الفصل الثالث ما يؤكد ذلك انطلاقا من التجارب السابقة، (فقال: هذه حكمة أخرى علمها لنا الحكيم العليم، فصار يخوض بعقله ما يصلح بهذه الحكمة، فلما استخبرها ـ مرارا ـ وجد أنها إذا كانت في مكان محصور اندفعت اندفاعا قويا أكثر مما إذا كانت في مكان متسع).

بداية التفكير في صنع جِعَابْ "الْمَدْفَعْ" بالجنوب المغربي

من هنا تفتقت عبقرية الصانع الذي خضع تجاربه للعقل، ومن تمة قام بـ "صنع لها جعبة من حديد، واستخبرها، فرأى منها أمرا عظيما في القوة، فلما كان يعلم من قبل ذلك أن الحموم تسرع إليه النار، وكانت الناس تزند به النار قبل ذلك، أضاف الحموم إليها ودقها مع الجميع حتى انضجت مع ذلك (مكونات الملح والكبريت)، فلما استخبرها وجد النار تسرع إلى ذلك أخف من طرفة العين، ومن تمة تفهمت الحكماء وأهل الصناعة حتى صنعوا المدفع، وكان في أول الأمر يخرجون المدفع بفتيلة فيها نار، ثم استخرج أهل الصناعة الزناد تَنْقَدِحُ النار منه".

مكونات وكيفية صناعة البارود بمختبر أشياخ أحمر

وتحدث في نفس الوثيقة عن طريقة تقطير وطبخ الملح، وكيفية استخبارها وإخضاعها للتجربة، بعد مزج خليط الكبريات وأبيض البيض لإزالة الشوائب، وفق مقاييس ومعايير مضبوطة ومحددة كمّا وكيفا".

 وأشار المؤلف إلى جودة نوع الملح التي تستعمل في صناعة البارود عند أشياخ أحمر وغيرهم من أهل الفن، حيث حددها في هذا النوع بقوله: "اعلم أن أجود الملحة، ملحة الكهوف والغيران في رؤوس الجبال الشامخة التي لا ترى مطرا ولا ريحا، فإنها تنبث فيها أسنانا، أسنانا".

وشدد المؤلف على أن تقطير الملح بالطريقة الناجحة تستخلص منه وفق التجربة قضبان الملح مثل الفضّة، حيث يتم عرضها لأشعة الشمس، وبعد ذلك تنطلق عمليات مراحل الدق والغربلة والمزج وما إلى ذلك من تفاصيل أخرى من أجل الحصول على مادة البارود التي حددها كالتالي: "فإذا أردت صفة دق البارود، ففي الصيف والخريف اجعله سباعي، وفي الشتاء والربيع اجعله خماسي أو سدادي، أو خماسي في سداسي لقلة النار في الأول ولكثرتها في الأخيرين".

وحسب نفس الوثيقة فإن كل هذه المقاييس تلزم الصانع "الفنان" و "الحكيم" أن يكون خبيرا في وزن مكونات البارود المتمثلة في (كمية الملح وكمية الكبريت، وكمية الفحم الجيد، المخصص للمزج مع المواد المذكورة)، والمرور لعملية الدّق بواسطة "الْمَهْرَازْ" المخصص لهذا الغرض، ثم عميلة الغربلة بواسطة غربال خاص لهذه المهمة، والإنتقال لتجارب أخرى تخضع بدورها للعقل تحت أنظار أهل الحكمة والفن من أشياخ احمر.

(يتبع)