الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبد الحميد جماهري: 47 سنة على المسيرة الخضراء.. وأخيرا شهد العالم على نفسه أن النزاع إقليمي بين المغرب والجزائر!

عبد الحميد جماهري: 47 سنة على المسيرة الخضراء.. وأخيرا شهد العالم على نفسه أن النزاع إقليمي بين المغرب والجزائر! عبد الحميد جماهري
لا يمكن تخليد الذكري 47 للمسيرة الخضراء المظفرة، بدون التذكير بالظروف التي صاحبتها وشروط انطلاق مسيرة الاسترجاع الميداني للوحدة الترابية عبر تحرير الأرض في الجنوب. وأولى تلك الشروط، الظروف الدولية التي اشتغلت في إطارها الديبلوماسية المغربية، وخصوصا داخل الهيئات الأممية وقتها.
وهي مناسبة للعودة إلى البدايات المتلعثمة، حقا وبالوقائع التي وجدها من تولوا مهمة صعبة للغاية، تمثلت في تمثيل المغرب في الأمم المتحدة، في سنوات وعقود كانت ميزتها الكبرى صراع المعسكرين الشرقي والغربي، والحيوية القتالية التي كانت تميز وقتها معسكر الاتحاد السوفياتي،والتردد الواضح أحيانا والمتستر أحيانا أخرى من طرف المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة إزاء قضايا "ثانوية" في تقدير خبراء البنتاغون والاستخبارات الأمريكية... وعندما نقيس المسافات، ونستقرئ التحولات والأداء الديبلوماسي المغربي، لا يمكن أن نخلد الذكرى بدون توجيه تحية تقدير عالية عن الحرفية والمهنية والقدرة على القراءة الصائبة والدقيقة لمعادلات العالم والقدرة على تغيير موازين القوى لفائدة القضية الوطنية.
لا يمكن أن ننسى ما كشفت عنه مذكرات من مروا بنيويورك عندما كانت "وثائق المغرب في قضية الصحراء بأقلام أجنبية "وكم من مرة أنقذتنا الصدفة. من هزائم فادحة، وتعويلنا على الهواية في معالجة الأمر وأحيانا الجهل وعن التخبط في اللجنة الرابعة... ولعل من حسنات تلك الفترة أن المغرب انتبه مع الملك الراحل ورضا اكديرة حسب مارواه ممثل المغرب مولاي المهدي العلوي «إلى أن غالبية البلدان التي صوتت مع الجزائر هي بلدان من العالم الثالث، في حين بقيت الدول الكبرى والدول دائمة العضوية في مجلس الأمن على موقفها المتوازن، مما يُشجع المغرب على بذل الجهود المضاعفة، في المستقبل، لإعادة الأمور إلى نصابها مع هذه الدول…».
وبالعودة إلى تلك الفترات العصيبة، التي كانت الحروب فيها امتدادا للسياسة الهجومية للأعداء، بالسلاح الشرقي والغربي والمنحاز، برا وجوا، نستطيع أن نركز على التحولات الرئيسية التالية:
ـ لقد كانت إسبانيا قد وقعت مع المغرب اتفاقية مدريد الشهيرة، وأخبرت الأمم المتحدة بأنها ملتزمة بالاتفاقية عبر تسليم الأمانة العامة لنص الاتفاق وعبر رسالة تعلن فيها بأنه لم تعد لها أي علاقة مع الأراضي التي استرجعها المغرب. وهو ما يعرف في الأدبيات الدولية بإنهاء وضعها الاعتباري كقوة إدارية ـ مديرة للأقاليم الجنوبية.
والواقع أنه لا يمكن إغفال دورها، مع ذلك، في مسلسل خلق مجموعة البوليساريو، بل يكاد الكثير من الصحراويين يعتبرون بأن "ثوار" البوليساريو جعلوا لينين في خدمة فرانكو، وكان ذلك من أجل الحفاظ على مصالح ما بعد الاستعمار أوالاستعماريةالجديدة، لم تسعفها إمكانياتها المتواضعة وقتها أن تظل محافظة عليها في كل مستعمراتها السابقة وليس سرا أن أرشيفا كاملا ما زال تحت الحفظ بمقتضى أسرارالدفاع الوطني، ولهذا لم تحسم إسبانيا مواقفها بالشكل النهائي وظلت في الموقف بين بين، إلى حين مارس من السنة الماضية حيث اعترفت بالحكم الذاتي كقاعدة وحيدة وفريدة لإيجاد حل للملف أمام الأمم المتحدة.
هذا التحول يعد استراتيجيا في الملف، إن لم نقل أنه بداية النهاية باعتبار ما تملكه دولة الاحتلال من اطلاع عليه، وأيضا وهذا هو المهم بما يعني أن أسطورة تصفية الاستعمار انتهت معها، بداية مع توقيع اتفاقية مدريد الثلاثية بينها وبين المغرب وموريتانيا.. ثم مع اعترافها بالحكم الذاتي كقاعدة وحيدة لتسوية الخلاف، وهذا ما يفسر السعار الذي انتاب سكان المرادية بعد الموقف الإسباني...
ـ تحول البراديغمات الكبرى ذات الصلة بالملف، ومنها ما استفاد منه المغرب بفضل نشاطه الديبلوماسي وقدرته على حسن القراءة.. ومنها ما كان المغرب وراء خلقه كبراديغم جديد.
ومن ذلك مايتعلق بالتوزيع الدولي للعمل الجيواستراتيجي، الذي كان يخضع لـ«مانوية» عصية شرقية وغربية، إلى عالم متعدد الأقطاب أو «لاقطبي« apolaire حتى، كما نلتفت إليه.
ومن ذلك أن الدول التي شكلت في سنوات الثنائية الدولية شرق - غرب ، وأبيض - أسود مقدمة حلف وارسو الطيب الذكر، قد تحولت إلى فضاء تميز مغربي ، كما هو حال دول شرق أوروبا التي صارت سندا للمغرب، زاده التحول في الموقف الألماني الذي يوجد في قلب هذا الفضاء قوة وفرادة..
وكما هناك براديغمات عمل المغرب على خلقها، بسيادة وذكاء استراتيجي، كما هو الحال في الاتفاق الثلاثي الأمريكي الإسرائيلي المغربي، والذي جعل القوة الأولى عالميا والحاملة للقلم تعترف بالسيادة المغربية وتغير المجرى الدولي للقضية، والتأثير الإيجابي في مساراتها...
ولم يكن البراديغم الثلاثي هو الوحيد الذي ساهم المغرب في تغيير معادلاته، بل كانت ديناميته داخل إفريقيا، من المرتكزات الرئيسية في تغيير المناخ القاري لفائدة القضية الوطنية، ولا يمكن أن نخلد الذكرى ولا نذكر المساحات السياسية والجغرافية التي كان خصوم القضية يحتلونها في القارة، لاسيما في غير المأسوف عليها منظمة الوحدة الإفريقية التي قبلت في صفها ضد مؤسسها المغرب، دولة البولساريو.. ولم تكن الديبلوماسية بمعناها الحصري وحدها في الميدان بل تحركت وهي مسنودة بكل أنواع الديبلوماسية الجديدة، الاقتصادية والبرلمانية والدينية والأمنية والثقافية... إلخ.
وقد كان من نتيجة ذلك أن العديد من الدول الإفريقية اختارت المغرب وقضيته الوطنية، أو فتحت قنصليات في أراضيه المسترجعة..
- في عالم متعدد الأقطاب أو لا قطبي، اختار المغرب الرد القويم البراغماتي بتنويع شراكته الاستراتيجية، شرقا وغربا وجنوبا، واستطاع الحفاظ على شراكاته التقليدية وتطويرها، وكانت بعضها تعرف تعثرات تحت سقف منخفض .. وهو ما انعكس على مواقف عواصم مهمة منها بروكسيل (الاتحاد الأوروبي) وأنقرة وبكين وموسكو ونيودلهي، إضافة إلى العواصم التقليدية التي تسير نحو تبني القاعدة المغربية للحل، مع تراجع دولي كبير جعل قرابة 90 دولة تدعم بشكل واضح الحكم الذاتي و90 ٪ لا تعترف بالبوليزاريو دولة .
ـ ولعل التحول اقلوي هو الذي يقع في الصحراء من حيث تطوير وتثبيت قواعد الوضع النهائي.. وذلك بسقوط منظومة ما تفرع عن وقف إطلاق النار، أي الاستفتاء كأسلوب للمعالجة، والتداول الثنائي حول القضية، والهدف من معالجة القضية برمتها. وعليه فقد تأسست قواعد جديدة لمنظومة جديدة نجح المغرب في وضع براديغماتها لصالحه.. ومنها:
أولا: حصرية الامم المتحدة في معالجة القضية على أن تكون الكلمة لمجلس الأمن.
= الإسقاط النهائي لفكرة الاستفتاء، أو العمل بها وتعويضها بالموائد المستديرة كثابت دولي في المعالجة بعد قرارات مجلس الأمن وتحديد مهام المبعوث الشخصي للأمين العام للاستمرار في نفس السيرة الديبلوماسية.
= الإقرار الدولي بطبيعة النزاع، باعتباره نزاعا إقليميا، ثنائيته الحقيقية مغربية جزائرية وليست مغربية انفصالية.
ومن عناصر التحول هو القرارات التي رافقت 14 سنوات من تاريخ الصراع داخل أروقة الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن منذ 2007، وهي القرارات التي وطدت الجزائر كطرف سياسي، من جهة ثم غيرت المرجعية القانونية من جهة عقد ولادتها في سجل الأمم المتحدة، وعوض سنة 1991، كتاريخ لوقف إطلاق النار، صارت سنة 2007 هي عقد ميلاد المرجعيات الحالية للحل.
وهوما قد يفرض مستقبلا تغيير مهام المينورسو نفسها..
= التركيز على طريقة وأسلوب الحل، وليس الحل بذاته، جعل الأفق الممكن الوحيد هو سيادة مغربية على الصحراء باسم الحكم الذاتي.
وقد تزامن ذلك مع سياق دولي حوَّل الحركات الانفصالية إلى"مقاولات عنف وترهيب" عوض دينامية تعبيرية عن مطالب ثقافية أو ترابية أو إثنية تحت مسمى فضفاض اسمه تقرير المصير..
بل جعلت الجزائر منه موقفا ضد الهدف الأسمى منه، أي تحويله إلى وسيلة لبناء إمبراطورية عسكرية في شمال إفريقيا، ترعب به الدول وتهيمن عليها، كما كانت الإمبراطوريتين النمساوية والمجرية قبل قرار تقرير المصير في مؤتمر فرساي!
ومنذ 1975 تحولت فكرة تقرير المصير من قاعدة ذهبية كانت تعمل من أجل تحرير الأوطان من نير الاستعمار إلى عملة افتراضية تنجم عنها تمزيق الشعوب والكيانات، وليس صدفة أن الأمم المتحدة التي تأسست هي نفسها على مبدأ تقرير المصير وحق الشعوب في ذلك، رفضت استفتاء استقلال كردستان العراق، كما أن إسبانيا التي طالما رعت تقرير مصير الصحراويين وجدت نفسها في استحالة دستورية تبينت عندما حدث نفس الشى في كاطالونيا بالرغم من الاستفتاء الديموقراطي ( ما سمحت به الديموقراطية رفضه الدستور !)..
= لا أحد ينكر التقدم الحاصل في أوروبا،كدول وعواصم بلغت 11 دولة، تثمن الحكم الذاتي، والمنتظر أن تكون فرنسا قد استوعبت التحولات الجارية، وأَلاَّ تعاكس التوجه الاوروبي، وفي قلبه المانيا واسبانيا وهولاندا، وأن «تهضم» التحول الامريكي، ولا تعتبره سقف زجاجيا عاليا عليها.. بل ننتظر أن تكون مناسبة المسيرة مناسبة للاعلان عن نضج المقاربة الفرنسية…علما أن باريس لها تاريخا يستحق المساءلة في قضية الصحراء …
= على الأرض، أعطت توجهات الملك المعنى الحقيقي، العملي والإنساني في نفس الوقت، لمعنى تقرير المصير، عندما مكنت هذه التوجهات ساكنة الصحراء من الثلاثية المطلوبة فيه: أي اختيار الممثلين الشرعيين للساكنة ـ حرية التصرف في الثروات المحلية وجعلها في خدمة السكان- وصار الحكم الذاتي أنضج صيغة دولية لقبول تقرير المصير وتنفيذه بدون أن يكون ذريعة لزعزعة الاستقرار أو تغيير جغرافيات المناطق المنتظمة في السلك الأممي، كما هو شمال افريقيا.. والمطلوب الآن هو أن يكون للبوليزاريو حق تقرير المصير إزاء .. العسكر الجزائري!
وإلا سيكون قاعدة لبناء كيان صغير ، تحت حكم عسكري،وإشراف مباشر من إيران، وهو ما يجعله قبلة ترابية وعسكرية وسياسية في منطقة تعرف أكبر تجمع لفصائل الإرهاب والانفصال. علما أن الصحراء باعتبارها جزءا من الجغرافيا الأطلسية هي جزء من امتداد الساحل... مقابل ما يقترحه المغرب من تنمية ونمو غرب إفريقيا لإنقاذ المنطقة وحماية أمنها وتجارتها البرية والبحرية ...
- تفكك البنية البشرية للبوليزاريو وانفراط عقد تأسيسه، وتحول ساكنته إلى مقتطف مونوغرافي في الدفاتر الدولية عوض الحديث عن الشعب الصحراوي ووجود محاكمة دولية لنظام الجزائر على ما فعله بساكنة الصحراء.
وأصبح شعار تحرير أبنائنا في تندوف شعارا مركزيا يتقدم على خارطة العالم الحقوقية، وما اعتبرته الجزائر ذراعها البشري في حرب الصحراء تحول إلى وصمة عار دولي تقابل فيها الجزائر العالم وليس المغرب وحده...
ولأول مرة منذ 1977، أي بعد المسيرة بسنتين يصبح إحصاء ساكنة تندوف موضوع قرار دولي واضح وصريح، يرفض الذريعة الجزائرية في الهروب وربط الإحصاء بإجراء الاستفتاء في عملية رهائن دولية تتحول شيئا فشيئا إلى جريمة ضد الإنسانية تحت رعاية الامم المتحدة إذا هي لم تتحرك!!!
وفي مقابل هذه الدينامية الجارفة التي غيرت من المعطيات الجيوسياسية والأممية في تداول الملف، هناك محاولات لتأبيد الصراع وتغذيته بحطب جديد من طرف نظام العسكرالشرقي.
عوض القذافي وكوبا والاتحاد السوفياتي، تبحث الطغمة عن مصنع إيراني لأوهام الحرب، وصناعة الضحايا، تحت رايات جديدة يحملها الحرس الثوري.
وفي المقام ذاته، من تحولات لما مر من زمان على المسيرة هو"مسيرات" إيران الطائرة، والدفاع الإيراني تغريه مراكز الجيش الجزائري بدخول المغامرة في الشمال الإفريقي..…
وبعد أن تم تبرير الهجوم على المغرب باسم النزعات القومية والماركسية اللينينية والغيفارية (والي السيد) والعالمثالثية الخضراء حان الوقت بالنسبة للعسكر الجزائري ليجرب حظه مع الهلال الشيعي من الفرات إلى المحيط الأطلسي.
وهو ما قد يفتح طريقا جديدا إلى تغيير طبيعة المناطق المنزوعة السلاح في الجهة الشرقية من الجدار، ويحل المغرب من أي تعاقد مهما كانت طبيعته من أجل منح ترابه لإقامة السلام وليس لإقامة منصات للهجوم عليه، وهو أمر وارد بلا شك ولا مواربة.
وعوض شعارات محاربة الرجعية نسجت بسرعة شعار محاربة التطبيع، ولفشلها في الدفاع عن موقف مشرف عن أوكرانيا في حربها ضد موسكو، وجدت جنوب إفريقيا قضية تعويض وعجلة سريعة الإعداد في قضية ابراهيم بن بطوش ومن معه وسارع إلى معانقة النظام العسكري في شمال القارة بعد أن تكرس قطب المحور الذي بناه (نيجيريا وكينيا) وفقدت بريتوريا وهجها الإقليمي..
وفي قلب هذه التحولات، لم يسع المغرب إلى تحويل نقط قوته إلى جدار بينه وبين الطرف الإقليمي في النزاع، بل ما زال يسعى لإسقاط الجداروالحدود، لأن الأمر هنا إقناع الطرف الآخر بأن ما يبنيه البلدان أكبر من النزاع نفسه وأن القوة المقتسمة لا تنقص من قوة كل بلد علي حدة، بل تشرع لقواعد عمل مشترك لتحقيق تحول آخر في البراديغم المغاربي، كضرورة جيواستراتيجية لا يمكن تعطيلها بناء قوة داخل حدود مغلقة.. قد يستدعي ذلك "أمنا ديموقراطيا" في الطرف الآخر، يجعل الدولة العسكرية تؤمن بأن الديموقراطيات لا تتنازع بينها حربيا. وتستطيع أن تجعل من هذا الأمن الديموقراطي قاعدة لعلاقات ثنائية دولية عميقة.. والأنكى.. من ذلك أن المنطقة هي الوحيدة تقريبا في العالم التي توجد بلا تكتل أو مجموعة إقليمية فاعلة يمكنها أن تحاور العالم..
والتسليم بوحدة المغرب. القاعدة الذهبية الوحيدة الممكن أن تفتح المستقبل والعقول واحتمالات التطور في إطار السلام وتغيير البراديغم الإقليمي رأسا على عقب وترفع الشعوب رأسها، كما المغاربة في ذلك اليوم المجيد 6 نونبر 1975.