الجمعة 26 إبريل 2024
سياسة

ماكرون يعجل بسقوط أصنام  فرنسا في إفريقيا

ماكرون يعجل بسقوط أصنام  فرنسا في إفريقيا غلاف العدد الجديد من " الوطن الآن "
هل تحررت فرنسا من لوازم الزمن الاستعماري كما تشير إلى ذلك شعارات زمن الأنوار ومبادئ الجمهورية المحتفية بالحرية والمساواة والأخوة؟ أم انها لا تزال تمثل التجسيد الحي لعقل استعماري لا يزال ينظر إلى العالم بمنظار القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؟
 
للإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نستحضر بعض معالم السلوك الفرنسي الذي تنهجه بلاد فولتير وموليير تجاه بلدان العالم حيث يتأكد أنها لا تزال تتصرف كقوة استعمارية عتيقة بمفردات وأساليب فضحتها النظرية ما بعد الاستعمارية كما أسس لها فرانز فانون وإدوار سعيد وغيرهما من قراء ومحللي الخطاب والسلوك الاستعماريين.
 
إن فرنسا، وفق سلوكها داخل ترابها الوطني وخارجه، لا تزال تتصور نفسها مركز العالم وضميره. أما الآخرون، في منظورها، فهم الجحيم والهامش والدوني. لنتذكر وفق هذا النوع من الوعي المتعالي، وللتمثيل على ذلك وبالتركيز فقط على إفريقيا، كيف كانت تتصرف فرنسا تجاه إفريقيا وقادتها ومثقفيها وفنانيها، ولنتذكر تحديدا كيف كان الرؤساء الفرنسيون يهينون الرؤساء الأفارقة في المحافل الرسمية وعلى مرأى ومسمع من العالم وأمام شاشاته. 
 
الأكثر من ذلك أن هؤلاء الرؤساء الفرنسيين كانوا يصرون على أن يروا إفريقيا فقط منجما للاستغلال، أو لنقل بالتعبير الدارج بقرة حلوبا لا صديقا استراتيجيا أو شريكا عاقلا، متناسين أن تحولات عميقة حدثت في إفريقيا وفي كل بقاع المعمور. ولقد كان من نتائج تلك التحولات أن تشكل عقل إفريقي جديد يخوض المعركة من أجل تجديد استقلاله وتثبيت سيادته. وسواء اتفق المرء واختلف مع مضامين وأشكال تلك المعركة، فالمؤكد أنها تجري على إيقاع الغضب الإفريقي، وضدا على نزوات الاستعلاء، وتعبيرا عن الاستياء العميق من غطرسة فرنسا وعجرفة قادتها وتبعات إرثها الاستعماري. 
 
في هذا الإطار نقرأ إقدام المتظاهرين، يوم فاتح أكتوبر 2022، على إحراق مبنى سفارة فرنسا في بوركينا فاسو، إثر الأحداث الناجمة عن الانقلاب العسكري هناك بدعوى تورط باريس في دعم الرئيس المنقلب عليه. وقبل هذا وذاك بعد تأكد نتيجة فشلها في تحقيق الأمن المفترى عليه، ومكافحة الإرهاب والتشدد، والتهريب والاتجار في البشر بحيث تأكد عجزها عن ضمان استقرار هذا الجزء من القارة، وتقاعسها عن تدعيم مشاريع التنمية هناك، بل والعمل على تعطيل كل تفكير في النهوض والتحرر.
 
ولأجل الأسباب ذاتها انتفض مواطنو مالي، ابتداء من مطلع سنة2022، ضد الوجود الفرنسي على أرضهم، وفي منطقة الساحل التي استوطنوها منذ سنة 2013 بدعوى كبح جماح الجماعات المتطرفة، وإعادة الأمن إلى القارة. ومن ثمة كان الانسحاب المذل لجيش ماكرون، ولكل المبررات السياسية والعسكرية التي كانت تروج لها فرنسا من أجل الإبقاء على الاستيطان في إفريقيا.
 
ويتعاظم السلوك الشقي الفرنسي حين يتبين أن فرنسا تغفل مظاهر أخرى للتحولات، كبروز قوى عظمى غير تقليدية صارت تتسلل إلى القارة لتضع قادتها ونخبها إزاء اختيارات مخالفة للمرجعية الفرنسية التقليدية كالصين وروسيا واليابان وتركيا التي صارت مركز جذب اقتصادي واستثماري وعسكري بعد أن ثبت أن هناك آثارا للتدخل الأجنبي في النزاعات الإفريقية. ثم هناك الامتداد الذي عرفه الحضور المغربي في القارة ممثلا بإقامة شراكات واتفاقيات تعاون اقتصادي ( المغرب أبرم في عهد الملك محمد السادس أزيد من 1000 اتفاقية مع دول إفريقيا)، إضافة إلى العلاقات الثقافية والروحية التي تجمعنا مع عمقنا القاري. وهذا بالضبط ما يجعل فرنسا اليوم على الهامش مثل كائن منبوذ لم يعد يعاني فقط من عزلة دولية.  بل كذلك من عزلة سياسية داخل التراب الفرنسي حيث النظام كما يجسده الرئيس ماكرون بامتياز صار معزولا حتى عن النخبة وعموم المواطنين، بدليل نتائج الانتخابات الأخيرة، الرئاسية والتشريعية، والتي أسفرت عن وضع "البلوكاج" السياسي والاجتماعي، وبدليل مخاضات الاحتجاج التي يعرفها الشارع الفرنسي كل يوم تنديدا بتزايد نسب التضخم وأثرها على القدرة الشرائية، إضافة إلى القرارات الأخرى المجحفة، وضمنها أساسا قانون إصلاح التقاعد... ومعلوم أن كل هذه الأزمات تتأطر ضمن إحساس فرنسا بانحسار دورها الثقافي والإشعاعي،  وببدايات انحلال المنظومة الفرنكوفونية...

بالعودة إلى سؤالنا في مطلع هذا التقديم يكون من المؤكد إثبات أن العقل الإفريقي الناهض قد هزم العقل الفرنسي الراهن. ولذلك كان من الطبيعي أن تنحرف أصنام فرنسا المعزولة المتنكرة لذاتها وتاريخها قبل التنكر لذات وتاريخ الآخرين.