الخميس 28 مارس 2024
فن وثقافة

السوسيولوجي بنعياش :كان محمد جسوس صادقا مع نفسه، في العلم كما في السياسة (2)

السوسيولوجي بنعياش :كان محمد جسوس صادقا مع نفسه، في العلم كما في السياسة (2) عمر بنعياش والفقيد محمد جسوس( يسارا)

أبرز الباحث المغربي في الدراسات السوسيولوجية، الدكتور عمر بنعياش، المكانة العلمية للعالم المغربي في علم الاجتماع المرحوم محمد جسوس، وتراثه الفكري وسيرة حياته المتميزة والفريدة، مشددا على أن محمد جسوس لم يكن يشبه أحدا، ولم يكن يشبهه أحد.

وأوضح الدكتور بنعياش خلال مداخلاته في حلقة من برنامج "مدارات " بالإذاعة الوطنية من الرباط، مخصصة لهذا العالم الكبير ، بأننا نوجد اليوم في العشرية الثالثة من القرن الواحد والعشرين، أمام جيل جديد من الطلبة، ومن الأساتذة الجامعيين، علاوة على جيل آخر قادم في ظرفية جديدة، بتكوينات جديدة، وممارسات ومفاهيم وعقليات مختلفة، وكلهم لم يعرفوا محمد جسوس طبعا، ولم يجالسوه أو تتلمذوا على يديه، وربما لم يتعرفوا حتى إلى بعض أفكاره وتحاليله، المتضمنة في الكتب القليلة التي صدرت باسمه ، بمبادرة من بعض طلبته أو محبيه، مضيفا أنه من حق هؤلاء علينا ، أن نعرفهم بأفكاره و مسار حياته.

" أنفاس بريس" تنشر مداخلة عمر بنعياش في برنامج مدارات :

.

محمد جسوس بين العلم والسياسة :

وأوضح الباحث بنعياش بأن الجميع يعلم أن المرحوم محمد جسوس رحمه الله، كان يعتمر قبعتين، قبعة رجل العلم وقبعة رجل السياسة والشخصية العمومية، لكن لا أحد يستطيع اليوم أن يدعي، بأنه تصرف في دروسه ومحاضراته الجامعية، بل وحتى في محاضراته العمومية، كداعية سياسي أو كمبشر بأية إيديولوجية، كيفما كانت.

وشدد المتحدث أن هذا الرجل الفريد، كان صادقا مع نفسه، سواء في العلم أو في السياسة، وأنه كان يقول رأيه ويمضي، غير عابىء بما يمكن أن يقال عنه أو حوله.

وعن علاقته بمحمد جسوس، أوضح أنها كانت وطيدة، وأنه يعتبر نفسه تلميذا مخلصا له، بل ومن أكثر محبيه ومريديه الأوفياء، وأنه أكثر من التقى به وحضر محاضراته، لأزيد من ثلاثة عقود من الزمن، لاسيما وأنه ينتمي لنفس الهيأة السياسية التي كان جسوس من أبرز قادتها.

 

جسوس رجل الواجهات المتعددة :

وعن ذكرياته مع الراحل جسوس، أوضح الباحث عمر بنعياش أنه خلال فترة اشتغاله بالصحافة المكتوبة، كان يطلب منه تغطية محاضرات المرحوم محمد جسوس الكثيرة والمتنوعة، التي كانت تشمل قضايا العمال والمجالس المحلية، والنساء والأطفال والشباب، والطلبة والأساتذة.

واستحضر في هذا الصدد، كيف أن العالم الراحل كان يتردد كثيرا في نشر محاضراته، لأنه كان إنسانا ينشد الدقة والإتقان. وأضاف الباحث عمر بنعياش يقول؛ " عندما كنت أسجل محاضراته، وأقوم بتفريغها وعرضها عليه، لتنقيحها والموافقة على صيغتها النهائية، كان يطلب مني أن أتركها له لمراجعتها، لكنه كان رحمه الله يماطل في إرجاعها إلى، ففهمت من ذلك أن الوقت لم يسعفه لمراجعتها، بشكل مقنع بالنسبة إليه، لأنه كان مطلوبا في كل الواجهات، سواء في اجتماعات الشعبة، بصفته رئيسا لشعبة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس بالكلية، أوفي اجتماعات البلدية، لأنه كان مستشارا بلديا.

كما كان مطلوبا للإشراف على الأطروحات والمساهمة في مناقشتها، وفي مجالات أخرى كالمعهد الزراعي للإحصاء وكلية الطب ، ومعهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة ، وفي كلية الحقوق وفي معهد التعمير، إضافة إلى الجلسات الأسبوعية التي كانت تجمعه في فترة من الفترات كمستشار بلدي بالمهندسين المعماريين"، في إطار العمل على إعداد التصميم المديري لمدينة الرباط ، وكذا التصميم المديري لمدينة فاس، وأيضا تمثيل مدينة الرباط في المحافل الدولية، والدفاع أمام خبراء وممثلي البنك الدولي، عن الأحياء الفقيرة ، خاصة دوار "الدوم" بالرباط

واعتبر الأستاذ بنعياش أن هذه هي الصفات التي كانت تميز المرحوم محمد جسوس، عن باقي الأساتذة المشتغلين بالفكر والثقافة، مشددا على أنه كان لا يرد طلبا، لأي شخص أو جهة، حتى دون معرفة مسبقة بمن يتوافدون على بيته، لطلب خدماته أو مشورته، مما جعله لا يجد الوقت الكافي .

وفسر الباحث بنعياش ذلك، بأن الرجل كان مأخوذا بمبدأ المصلحة العامة، لخدمة الناس، معتبرا أن هذا من الأسباب التي جعلته لا يتفرغ للكتابة.

 

محاضرات شفاهية بمنهجية مضبوطة ولغة مرتبة :

وفي ذات السياق، سجل الأاستاذ عمر بنعياش، أن قوة محمد جسوس- رحمه الله- هي محاضراته الجامعية والعمومية التي كان يلقيها شفاهيا، لكن بمنهجية واضحة ومضبوطة، وبلغة وأفكار مرتبة، لكن دون أن تعني محاضراته الشفهية، أنه كان عازفا عن الكتابة أو غير راغب فيها، بل لأنه كان يؤمن

في قرارات نفسه، بأن طلبته سيوثقون أفكاره وتحاليله، وسينشرونها بشكل أو بآخر .

لكن ذلك مع الأسف لم يحدث، وبخصوص هذا الجانب، كشف الباحث عمر بنعياش أنه شخصيا كان يسأل المرحوم الدكتور محمد جسوس، عن مصير التسجيلات الكثيرة التي سجلها له، فلم يجد جوابا، ثم علم بالصدفة أن المرحوم جسوس كان قد سلمها كلها لشخص بالدار البيضاء، لترتيبها ونشرها، لكن ذلك أيضا مع الأسف لم يحدث .

وأضاف يقول : " لقد عاش محمد جسوس ثماني سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية ، وعرف أن عددا من النظريات التي اشتهر بها بعض المفكرين السوسيولوجيين والفلاسفة هناك، لم يكتبوها في كتب أو مؤلفات، أو حتى في مقالات، بل وردت في محاضراتهم الشفاهية، وأخذها طلبتهم عنهم ، وقاموا بنشرها بعد وفاتهم ، كما هو الشأن مع المفكر السوسيولوجي والفيلسوف الأمريكي "جورج هيربر"، الذي يعد أحد الأركان الأساسية لنظرية التفاعل الرمزي، لكنه لم يكتب كتابا في هذا الموضوع، لأن من جمع محاضراته ونقحها ورتبها وحررها ، وأخرجها للتداول العمومي، هم طلبته، بينما نحن جميعا نشير إلى كتاب معروف له، على أساس أنه من تأليفه، والحقيقة هي غير ذلك، لأن من صاغه وحرره هم طلبته."

وفي تقدير الباحث عمر بنعياش، فإن محمد جسوس كان يعتقد بأن طلبته سيردون له الجميل (بجمع ونشر محاضراته) لكن أحدا منهم لم يفعل، باستثناء الأستاذ إدريس بنسعيد، والأستاذ نجيب الخدي الذي نشر عملين متفرقين له، إضافة إلى صحفي بجريدة "الأحداث المغربية" اهتم بإجراء حوارات معه ونشرها.

كما أشار إلى أن الجمعية المغربية لعلم الاجتماع، أصدرت في إطار منشوراتها كتابا، يتضمن دروسا فكرية هيأها الأستاذ نجيب الخدي.

 

حين ندم جسوس على ضياع جزء من تراثه :

وفي نفس السياق، أوضح الباحث المغربي عمر بنعياش أن هناك في الحقيقة سببا آخر في هذا الجانب المتعلق بنشر محاضرات محمد جسوس، إذ في كتابه "رهانات الفكر السوسيولوجي" الذي أعده للنشر الأستاذ إدريس بنسعيد، أكد المرحوم محمد جسوس أن علاقته الفاترة بالكتابة والتأليف، تعود إلى كونه لا يفكر ولا يتمنى إنتاج " سوسيولوجيا كسوسية". لكنه لم يخف ندمه على عدم اهتمامه الشخصي بالكتابة، عندما لاحظ أن ما كان يأخذه منه طلبته الباحثون، يأخذونه خالصا لأنفسهم، كغنيمة فكرية وعلمية.

وفي موضع آخر من حديثه عن العالم السوسيولوجي الراحل محمد جسوس، ضمن برنامج "مدارات " بالإذاعة الوطنية من الرباط، أثار الباحث عمر بنعياش جوانب أخرى من سيرته وأفكاره، حيث ذكر أنه عاش بمنزل متواضع في حي " أكدال "بالرباط، هو وزوجته وأبناؤه الثلاثة، ليلى ونادية عمر، وهو البيت الذي يطلقون عليه اسم " الزاوية"، وذلك من كثرة الإقبال عليه من طرف الطلبة والباحثين من مختلف التخصصات، إضافة إلى السياسيين والنقابيين، والمستشارين الجماعيين، من مشارب مختلفة.

وذكر الاستاذ عمر بنعياش أن الزوار كانوا يخرجون من بيت الراحل جسوس، متأبطين كتبا وتقارير من خزانته الشخصية، منها ما عاد إلى صاحبه، ومنها ما لم يعد إليه أبدا.

وتفسيرا لما اتسمت شخصيته من مميزات فريدة، أكد الباحث بنعياش أنه كانت لدى محمد جسوس نفحة صوفية، وأن أبناء جيله مازالوا يذكرون كيف قام بتعريف نفسه، في لقاء تلفزيوني، بأنه شخص يفعل "الأجر"، بالمفهوم الديني والشعبي، أي أنه يقوم بالعمل الخالص لوجه خالقه فقط، ولا يسعى من ورائه إلى أية مصلحة شخصية.

واستحضر الاستاذ عمر بنعياش في معرض حديثه، فكرتين أساسيتين ذكرهما المرحوم محمد جسوس في محاضراته ودافع عنهما، ومن ذلك أنه كان يقول منذ سنة 1980، بأن السوسيولوجيا الغربية نفسها، توجد في أزمة، وأن حالتها تدعو إلى إعادة النظر في أسسها ومبادئها ومفاهيمها، مضيفا أننا . نشهد اليوم بشكل واضح، صدق استنتاجه، من خلال بروز فرع جديد من السوسيولوجيا يعتمد على الذكاء الاصطناعي، بشكل يتجاوز أساليب البحث المتعارف عليها في مجال البحث السوسيولوجي.

وفي جانب آخر من حديثه، توقف الاستاذ عمر بنعياش، عند دعوة محمد جسوس باستمرار، إلى ضرورة الربط في علم السيسيولوجيا، بين النظرية والتطبيق، وأنه لا معنى لنظرية بدون قدرتها على الفعل والتأثير.

وأشار الباحث الجامعي عمر بنعياش إلى أنه إنطلاقا من ذلك، رفع المرحوم الدكتور جسوس شعار "مهنة أو تمهين" السوسيولوجيا في المغرب، ودافع عن ذلك، إذ كان يعتبر ولوج جميع المجازين المتخرجين من شعبة السوسيولوجيا، إلى مهنة تدريس الفلسفة والتربية الإسلامية، هدر كبير لهذه الطاقات، وكان يقصد أن يتم الاعتراف بهم أيضا كمستشارين اجتماعيين، يتم توظيفهم على هذا الأساس في المدارس والمستشفيات، وفي المحاكم والسجون والمصانع والمعامل، وفي الجمعيات المدنية، مشيرا إلى أنه رحمه الله يتابع إحصاءات هؤلاء المتخرجين كل سنة، ويشبههم بمهندسي التطبيق .

وخلص الدكتور عمر بنعياش إلى القول، بأننا نلاحظ اليوم كيف أن دعوته لتمهين السوسيولوجيا، لقيت تجاوبا نسبيا من طرف ذوي القرار السياسي، لكن بشكل متأخر، بعد هدر حوالي أربعين سنة من الوقت، وذلك عندما قررت وزارة التعليم توظيف أطر للدعم الاجتماعي والنفسي، من هؤلاء الخريجين.