في خضم التحولات السوسيو-تربوية التي يشهدها المشهد التربوي بالمغرب، وفي ظل ما يشبه الانسحاب التدريجي للدولة من مسؤولية حماية وتثمين الفضاءات التربوية التاريخية، يطفو على السطح مجددًا قرار إغلاق مخيم عين خرزوزة، كاشفًا عن عمق أزمة باتت تهدد جوهر العمل التربوي الميداني، ومثيرًا سؤالاً جوهريًا: هل لا تزال الذاكرة الجماعية للأطفال أولوية ضمن سياسات الدولة؟
1- إغلاق غير بريء وأسئلة محرجة
قرار إغلاق مخيمي عين خرزوزة وبنصميم في وجه الأطفال والجمعيات التربوية يثير جملة من التساؤلات العاجلة والملاحظات المقلقة. فالجهة التي أصدرت القرار، كان من الأجدر بها القيام بدور استباقي عبر معاينة حالة هذه الفضاءات والتأكد من أهليتها للاستقبال قبل الشروع في توزيع الحصص على الجمعيات، لا أن تنتظر إلى ما بعد التوزيع لتعلن قرار الإغلاق.
هذا الأسلوب يكشف عن خلل كبير في التنسيق بين القطاعات الحكومية، خصوصًا بين وزارة الشباب ومندوبياتها من جهة، والسلطات المحلية من جهة أخرى. علمًا أن المخيمين مغلقان منذ سنتين، مما يطرح سؤالاً محوريًا: لماذا لم يتم خلال هذه الفترة برمجة أشغال الإصلاح والصيانة؟
الأدهى من ذلك أن وزارة الشباب سبق أن أعلنت، قبل سنة، عن تخصيص أكثر من مليار سنتيم لإعادة تأهيل وتوسيع مخيم عين خرزوزة. فأين اختفت هذه الاعتمادات؟ وما مآل هذا المشروع؟ وهل تم تحويل الميزانية لمشاريع أخرى في غياب الشفافية والمساءلة؟
الأمر لا يتعلق فقط بخرزوزة أو بنصميم، بل بسلسلة مقلقة من قرارات الإغلاق التي طالت، منذ أكثر من 15 سنة، عدداً من مراكز التخييم الجبلية، لا سيما في الأطلس المتوسط. وهو ما يُرسخ سياسة تهميش منهجي لهذه الفضاءات الحيوية، ويُقصي آلاف الأطفال من الحق في عطلة تربوية وسط الطبيعة.
أليس من المفارقة أن تُهمل الدولة هذه المواقع التاريخية ذات الأثر التربوي والثقافي العميق، بينما يُرفع شعار "العدالة المجالية" و"التمكين الثقافي"؟
2- عين خرزوزة: ذاكرة جماعية تمتد لأكثر من ثمانية عقود
يقع مخيم عين خرزوزة في ضواحي مدينة آزرو، ويُعد من أعرق الفضاءات التربوية في المغرب. فمنذ أربعينيات القرن الماضي، كان هذا الفضاء يحتضن أنشطة متنوعة لحركات شبابية مغربية ويهودية وفرنسية، مشكلاً بذلك فضاءً للحوار الثقافي، والتربية على المواطنة، والتلاقح الحضاري.
لكن، وعلى الرغم من رمزيته، أُغلق في صمت، دون أي اعتبار لما يمثله من رصيد رمزي وتربوي وطني.
3- حركة الطفولة الشعبية: حين ينبض المكان بالحياة
لا يمكن الحديث عن خرزوزة دون استحضار الدور الحيوي لحركة الطفولة الشعبية، التي بادرت سنة 1988 إلى إعادة إحياء هذا الفضاء التربوي، بعد سنوات من التهميش والنسيان. ورغم ضعف الإمكانات، أطلقت الحركة ورشًا ميدانيًا ضخمًا شبيهًا بورش 1949 بمخيم "البُناة" تحت قيادة السيد "دارن"، مؤطّرًا ببيداغوجية فريني للتربية الشعبية.
الورش الوطني ساهم في إعادة تهيئة البنية التحتية، وشارك فيه العديد من الأطر والمتطوعين من مختلف فروع الحركة، في نموذج فريد لتكامل العمل الجماعي والتربوي. على مدى ثلاثة عقود، تحولت خرزوزة إلى مختبر وطني لبناء الإنسان والمكان، حيث نُظمت فيها مخيمات صيفية، لقاءات إشعاعية، وتكوينات جهوية، تُجسد فلسفة التربية الشعبية التي تتبنتها الحركة.
لكن هذا الورش توقّف سنة 2013، وتوقفت خدمة المسبح بفعل غياب الدعم المؤسسي، وتنامي العراقيل التقنية والإدارية، وهو ما يعكس تراجع إرادة الدولة في دعم ما بُني بإرادة المجتمع المدني.
4- بين الإقصاء والتفويت: أي أفق لفضاءات الطفولة؟
إن ما جرى لمخيم خرزوزة لا يجب النظر إليه كاستثناء، بل كمؤشر على مسار عام لإقصاء الفضاءات التربوية غير الرسمية، التي غالبًا ما تُترك لتواجه مصيرها بالانهيار أو التفويت، في ظل غياب تصور استراتيجي لحماية التراث التربوي.
فكيف يُعقل أن تُغلق الفضاءات التي تربّى فيها آلاف الأطفال والأطر، بينما الشعارات الحكومية تدعو إلى تبني مفهوم الدولة الاجتماعية؟
إن إغلاق فضاء كعين خرزوزة ليس قرارًا تقنيًا، بل فعل رمزي له ما بعده، يُقزم دور التربية الشعبية، ويقوّض جهود الفاعلين المدنيين الذين بنوا هذا الفضاء بعرقهم وحبهم للوطن.
5- دولة تتخلى عن الغابة وعن الأطفال!
رغم الشعارات المرفوعة حول العدالة المجالية وتمكين الطفولة، لم تُظهر الدولة أي إرادة حقيقية للاستثمار في البنيات التحتية داخل فضاءات التخييم الجبلية بالأطلس المتوسط. فقد تم التخلي فعليًا عن مواقع تاريخية كعين خرزوزة، بنصميم، تيومليلين، عائشة أمبارك، أوسماحة، ومخيم عين خالة الذي أُعدم كليًا، دون أن تُنجز فيها مشاريع تنموية أو بنيات رياضية وثقافية تليق بمقامها التربوي.
لم يُبْنَ فيها أي ملعب أو قاعة مغطاة أو مسبح جبلي، بل تُركت عرضة للاندثار أو التخريب، في زمن كان أطفال المستعمر يستفيدون من téléphérique حسب بول باسكون. والمفارقة أن المسبح الوحيد في هذه المناطق، بُني من طرف المستعمر الفرنسي سنة 1951، وظل صامداً لعقود، قبل أن تُحييه حركة الطفولة الشعبية في الثمانينات، ويُصبح فضاءً مفتوحًا أمام آلاف الأطفال، إلى أن توقفت خدماته سنة 2015 بسبب غياب الدعم العمومي.
وما يزيد الصورة قتامة، أن السلطات الاستعمارية الفرنسية، رغم نزعتها الاستغلالية، خصّت هذه المناطق بميزانيات ضخمة ومجهود هندسي وتقني واضح، فبنت الأكواخ الخشبية، وربطتها بالبنيات الأساسية، وخلقت فضاءات تخييمية نموذجية (مخيم "البُناة" 1949)، لا تزال بعض آثارها قائمة حتى اليوم. كان ذلك في سياق مشروع استعماري لترسيخ وجودها، لكنه ترك إرثًا تربويًا ملموسًا. أما الحكومات المغربية، فلم تستطع مع الأسف طوال أكثر من ستة عقود أن تُحافظ على هذا الإرث أو تطوره أو تجعله أكثر إنصافًا للأطفال المغاربة.
6- الذاكرة لا تُغلق بل تُصان وتُستثمر
عين خرزوزة ليست مجرد بنايات وسط الغابة، بل معلم تراثي وتربوي ووطني، يستحق أن يُدرج ضمن الفضاءات ذات القيمة الرمزية الكبرى وكتراث بيئي عالمي. وكان من الطبيعي أن تُدرج وزارة الشباب والثقافة والتواصل هذا الفضاء في أولوياتها، وتبني شراكات دائمة مع منظمات كحركة الطفولة الشعبية التي أثبتت التزامًا ميدانيًا استثنائيًا.
7- من أجل إنقاذ ما تبقى
أمام هذا الواقع، لا بد من دق ناقوس الخطر، وتجديد الدعوة إلى تحرك جماعي ومؤسساتي، من أجل:
-
تصنيف مخيم عين خرزوزة كموقع تربوي تاريخي وطني ودولي.
-
فتح حوار تشاركي مع الجمعيات التربوية الجادة، وعلى رأسها حركة الطفولة الشعبية.
-
خلق دينامية توثيقية لإحياء ذاكرة المخيم، عبر أفلام وثائقية، معارض وملتقيات.
-
صياغة ميثاق وطني لحماية الفضاءات التربوية التاريخية من الإهمال والتفويت.
لأن الطفولة لا تنمو في الفراغ، ولأن المخيمات ليست إقامة صيفية عابرة، بل هي تربة المواطن الحُر، المسؤول، والمبادر.
في الأخير، نؤكد أنه في ظل التحولات العميقة التي تعرفها السياسات العمومية المرتبطة بالطفولة والتخييم، يظل مخيم عين خرزوزة وعبره مخيمات الأطلس المتوسط رمزًا لذاكرة جماعية لا يجب أن تُهمل، وفضاءً تربويًا يستحق الحماية والتثمين. فما تم بناؤه بجهود جماعية وإرادة مدنية طموحة، لا يجوز أن يندثر بصمت أو يُطوى بقرار إداري عابر.
إن صيانة الذاكرة ليست ترفًا، بل ركيزة لبناء المستقبل، كما أن الاستثمار في الطفولة لا يمكن أن يتم خارج الفضاءات التي تمنحها فرصة للتعلم، والحلم، والانتماء.
ويبقى السؤال مفتوحًا أمام صناع القرار والفاعلين التربويين والمجتمع ككل: كيف يمكننا اليوم أن نعيد الاعتبار لهذه الفضاءات التاريخية، ونصوغ مستقبلًا تربويًا يُنصف الذاكرة ويصون الحق في التخييم للجميع؟