Tuesday 8 July 2025
كتاب الرأي

العمارتي: جريمة الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة.. ملاحظات حول قطعية النصوص القانونية الدولية وازدواجية معايير التطبيق (2)

العمارتي: جريمة الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة.. ملاحظات حول قطعية النصوص القانونية الدولية وازدواجية معايير التطبيق (2) محمد العمارتي
إن موقع المتابع والملاحظ لما يرتكب في غزة من انتهاكات جسيمة للقانون الدولي وصادمة للضمير الإنساني، لا يؤهلنا لوحده للجزم في المسألة القانونية العويصة المتعلقة بمدى ثبوت النية ووجود القصد لدى إسرائيل في التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة الفلسطينيين في غزة. فمن البديهي أن اختصاص التحديد و التكييف القانوني الدقيق لهذه الأفعال من زاوية القانون الدولي الجنائي والقانون الدولي الإنساني يرجع حصرا – بصرف النظر عن المواقف السياسية التي تعبر عنها الدول أو التقارير والبلاغات التي تصدرها المنظمات غير الحكومية أو غيرها من أشكال التعابير المدنية غير الرسمية – الى قضاة محكمة العدل الدولية.
ولعله من اللازم التذكير بأنه لم يكن من المطلوب من المحكمة أثناء المرحلة الأولى من مسطرة الدعوى التي قدمتها بطريقة استعجالية دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل ،أن تبت فيما إذا كان ما يرتكب من أفعال في غزة يعتبر "إبادة جماعية في طور التنفيذ ". ورغم ذلك فإنها خلصت في أمرها الاستعجالي الصادر في يناير 2024 الى أنه من الضروري اتخاذ بعض التدابير " بغية حماية الحقوق التي طالبت بها جنوب أفريقيا بالنظر الى "طابعها المعقول " بما في ذلك " "حق الفلسطينيين في غزة في الحماية من أعمال الإبادة الجماعية"، كما ضمنت أمرها الاستعجالي بشأن التدابير الاحترازية، منع إسرائيل من تدمير وإتلاف الأدلة المرتبطة بالدعوى والحرص على حفظها من الاندثار. وقد تعزز إقرار محكمة العدل الدولية بكون ارتكاب إسرائيل لإبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة" أمر محتمل "، بالموقف الجريء للمقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة ،التي قدمت أما م مجلس حقوق الانسان بجنيف التابع للأمم المتحدة في 25 مارس 2024 تقريرا لاذعا بعنوان " تشريح لإبادة جماعية" Anatomie d’un génocide ، أكدت فيه وجود أسباب معقولة للاعتقاد بارتكاب إسرائيل لجريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة. واعتبرت في تقريرها ان إسرائيل ارتكبت ثلاثة أفعال على الأقل تندرج ضمن جريمة الإبادة الجماعية وهي: التسبب في أذى جسدي أو نفسي خطير لأعضاء من الجماعة، إخضاع الجماعة، عمدا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا وفرض تدابير تهدف الى منع الإنجاب داخل الجماعة. وخلصت في تقريرها إلى أن" العتبة التي تشير الى ارتكاب إسرائيل للإبادة الجماعية قد تم بلوغها " وبأن الإبادة الجماعية في غزة هي" تصعيد لعملية محو الفلسطينيين ".
والسؤال الآخر الذي يفرض نفسه يتعلق بما إذا كانت الهجمات الإسرائيلية والقصف المتواصل لقطاع غزة يهدف الى إبادة السكان المدنيين الفلسطينيين أو الى تدمير "حركة حماس" باعتبارها العدو لإسرائيل؟
وبهذا الخصوص، يزعم ويردد المسؤولون السياسيون والقادة العسكريون الإسرائيليون أن العمليات الهجومية تستهدف حركة حماس باعتبارها عدوا لدولة إسرائيل يشكل تهديدا وجوديا لها، لكنهم يصرحون أيضا أن جميع السكان المدنيين الفلسطينيين في غزة يدعمون ويؤيدون ويتعاطفون مع حماس التي تعتبر في نظر إسرائيل العدو الذي يجب القضاء عليه وتدميره كليا.
وفي هذا السياق، تفيد الكثير من الشهادات المتقاطعة والتقارير الموثقة أن تصرفات القوات الإسرائيلية والأفعال التي ترتكبها وأشكال ومستويات العنف في هجومها كانت مدعومة بخطابات عنصرية وتحريضية تجرد الفلسطينيين في مجموعهم من إنسانيتهم، حيث وصفهم بعض القادة السياسيين وأعضاء في التحالف الحكومي اليميني المتطرف ب "البهائم والحيوانات"، ولم يتوانوا في كثير من المرات في تحريض القوات الإسرائيلية في الميدان على ارتكاب أفعال جرمية محظورة بمقتضى القانون الدولي الإنساني.
ويؤكد عدد من الملاحظين واقع انتشار خطاب عنيف مناهض للفلسطينيين بين فئات واسعة من المجتمع الإسرائيلي، ويروج هذا الخطاب صورة نمطية عن كون الشعب الفلسطيني بأكمله في غزة عدوا لإسرائيل، مما يحتم القضاء عليه وتحطيمه بالقوة من أجل تحييد الخطر الذي يشكله على وجود إسرائيل.
والتزاما منا بالتحفظ اللازم وما يمليه من تريث وعدم استباق قرار محكمة العدل الدولية في جوهر الدعوى بشأن انتهاك إسرائيل لاتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وتكييف الأفعال التي قد تعتبر المحكمة أنها تشكل إبادة جماعية للفلسطينيين في غزة، يمكن الجزم أن ثمة احتمال قوي أن هذه الدعوات الى الإبادة العنيفة الصادرة عن القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين، قد تعتمدها المحكمة وتستند عليها كدلائل قاطعة ودامغة على وجود نية الإبادة والتشجيع الصريح والعلني لارتكاب الإبادة الجماعية.
فبالعودة الى العناصر المكونة للمفهوم القانوني لجريمة الإبادة الجماعية وبخاصة منها ذلك المتمثل في إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا،
وبالنظر الى كون غزة باتت توصف من قبل منظمة الأمم المتحدة ب " المكان الأكثر تعرضا للجوع في العالم" بفعل الحصار الذي ضربته إسرائيل على وصول المساعدات الغذائية منذ 2 مارس 2025 ،حيث صار الجوع سلاحا لقتل الفلسطينيين حسب وكالة "الأونروا"، الأمر الذي يمكن معه اعتبار سياسة التجويع العمدي لتدمير الجماعة والقضاء عليها بمثابة فعل من الأفعال الجرمية المكونة للإبادة الجماعية، وذلك ما حذرت منه محكمة العدل الدولية وأمرت في تدابيرها الاحترازية الاستعجالية (26 يناير 2024 )إسرائيل بالتوقف عن ارتكابه ( الفقرات 75 الى 80 من قرار المحكمة).
وينضاف الى كل ما سبق ما تؤكده التقارير المقلقة والمتتالية للأمم المتحدة عن الوضع الإنساني الكارثي لسكان غزة، وما وثقته هذه التقارير من وقائع وأعمال تندرج في نطاق اتفاقية منع الإبادة الجماعية. وهكذا يعتبر مثلا قصف وتدمير المستشفيات والمدارس والمساجد ومقرات" الأونروا"، واستهداف الأطباء والصحفيين إحدى الطرق والوسائل المستعملة لإعاقة استمرار وبقاء جماعة معينة على قيد الحياة، كما ان التقارير تشهد بأن الحياة في جحيم غزة أصبحت شبه مستحيلة. وعليه يمكن الخلوص الى توفر ما يكفي من العناصر والوقائع والقرائن التي تدفع الى الاعتقاد بوجود الإرادة لدى إسرائيل ونيتها المتعمدة لتدمير "جماعة" الفلسطينيين في غزة وإبادتها.
ومن جهة أخرى، إن ما يسترعي الانتباه أيضا هو العنف المتصاعد الذي أضحى يطبع الخطاب السياسي للمسؤولين الإسرائيليين بعد الكشف الرسمي في05 مايو 2025 عن خطة الحكومة اليمينية المتطرفة لاحتلال غزة بكاملها وشروعها في تنفيذ هذه الخطة في الميدان (أنظر مقالتنا في أنفاس بريس بتاريخ 08 يونيو 2025). فالمصطلحات والمفردات والأوصاف والعبارات العنيفة التي أصبح هؤلاء المسؤولون يستعملونها دون مواربة أو حرج وبشكل صريح وواضح، يمكن الاحتجاج بها كدلائل قوية على وجود الإرادة وثبوت النية والقصد لديهم لارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة. فعلى سبيل المثال لم يتردد وزير المالية الاسرائيلي في الدفاع عن خطة حكومته لاحتلال قطاع غزة مؤكدا «سوف تدمر غزة بكاملها، وسيتم تهجير سكانها المدنيين في مرحلة أولى نحو جنوب القطاع ثم الى بلدان أخرى ...)، وفي نفس الاتجاه صرح "نتنياهو "في 19 مايو 2025 أن إسرائيل "ستحكم قبضتها ومراقبتها على قطاع غزة " مضيفا " ان الهجمات الواسعة النطاق على حماس ستتواصل الى غاية السيطرة الكاملة على مجموع إقليم غزة". وقد أعاد نفس وزير المالية اليميني التأكيد في تصريحات صحافية متتالية " سنحتل أخيرا قطاع غزة، وكلمة احتلال لم تعد تخيفنا"، و " لن يكون هناك أي انسحاب من الأقاليم التي احتلتها إسرائيل ولو بمقابل الإفراج عن الرهائن " مضيفا أن إسرائيل " استطاعت أخيرا التحكم الكامل في وصول المساعدة الإنسانية ومراقبة توزيعها حتى لا تستعمل لتزويد حماس ...".
إن هذا النوع من التصريحات العدائية والعنيفة تكتسي أهمية بالغة من وجهة القانون الدولي الجنائي، ولاسيما بالنسبة لجريمة الإبادة الجماعية التي تستلزم الإعداد للمواجهة القضائية والإدلاء بكافة الحجج ووسائل الإثبات الكفيلة بالبرهنة الدامغة على توفر النية والقصد لارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، وهو ما يعتبر الشق الأكثر تعقيدا في المحاكمات المتعلقة بالإبادة، لأنه ليس في استطاعة أي أحد أن يعرف بدقة خفايا نفوس الجلادين ولا ما يكتمونه في سرائرهم وما تضمره نواياهم. وبالتالي، إن توثيق وتجميع وحفظ كل العناصر التي يمكن استعمالها لإقامة الدليل على وجود النية والإرادة لارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة، يعتبر من بين العوامل الحاسمة في الدعوى أمام محكمة العدل الدولية. فاللغة العدائية والعنيفة، والخطب والتصريحات التحريضية للمسؤولين الإسرائيليين، والخطة العدوانية للاحتلال الكامل لقطاع غزة التي كشفتها الحكومة الإسرائيلية منذ مايو 2025، تعتبر كلها قرائن يمكن الاستناد عليها لإثبات وجود الارادة في ارتكاب الإبادة الجماعية للفلسطينيين. وإذا ما تم الكشف مستقبلا عن الأوامر العسكرية المتصلة بالهجمات على قطاع غزة فإنها ستدعم الأدلة المادية التي يمكن الاستناد اليها للتدليل القانوني على وجود وارتكاب الإبادة الجماعية.
وفيما يتعلق بجرائم الحرب الأخرى مثل " احتلال الأراضي الفلسطينية بالقوة" أو الجرائم ضد الإنسانية مثل التهجير القسري للسكان داخل قطاع غزة أو ترحيلهم الى خارج الأراضي الفلسطينية، فقد أصبحت اليوم أفعالا موثقة ومؤكدة من قبل منظمة الأمم المتحدة وعدة وكالات متخصصة ومنظمات حقوقية غير حكومية تحظى بالمصداقية على الصعيد العالمي، بل إن تصريحات المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم تؤكد مسؤوليتهم عن ارتكاب هذه الجرائم. وعليه، فإن مجموع العناصر والأفعال والقرائن المشار اليها، فضلا عن الأدلة الجديدة التي قد تنكشف لاحقا، يمكن استخدامها والاستناد عليها لتحريك المتابعة القضائية الدولية على أساس جريمة الإبادة الجماعية.
وعلاقة بما تقدم، يجدر بنا استحضار السؤال المباشر الذي طرحه على أعضاء مجلس الأمن في 13 مايو 2025 " توم فليتشر" المسؤول عن الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، " هل ستتدخلون الآن بطريقة حازمة وحاسمة للوقاية من ارتكاب إبادة جماعية؟ وضمان احترام القانون الدولي الإنساني؟ مضيفا " إن الضمير الإنساني والقانون والعقل هو الذي يجب أن يسود ويتغلب الآن ...". إن هذا السؤال يثير بحدة المسؤولية القانونية والسياسية و"الأخلاقية" لمجموع أعضاء المجتمع الدولي في حماية الفلسطينيين في غزة من الإبادة الجماعية، ويختزل واقع الانقسام والتناقض والسلبية الصادمة لأعضاء مجلس الأمن إزاء ما يجري في غزة.
وأخذا بالاعتبار أن الحديث عن "الجماعة الدولية": Communauté internationale كوحدة شاملة ومنسجمة يعتبر ضربا من الوهم، بالنظر لما يخترقها من خلافات حادة وتقاطبات بنيوية حول القضايا الدولية الكبرى، فإنه من غير المفاجئ عدم إفراز مجلس الأمن لموقف توافقي حول الإبادة الجماعية في غزة بعد مضي عشرين شهرا من الحرب المستعرة على سكانها والتدمير المتواصل لكل أسباب ومقومات الحياة فيها.
ليس هذا هو مجال تحليل مظاهر الانقسام حول ما يجري في غزة، وتعثر اتخاذ مجلس الأمن لتدابير حازمة ورادعة لإسرائيل، غير ان ملامحه الكبرى تتلخص في تعبير بعض الدول الغربية عن إدانة واهية وهشة للغاية، لما ترتكبه إسرائيل من أفعال جرمية خطيرة ضد الفلسطينيين، وركون بعضها الآخر الى الصمت المتواطئ. وفي نظر بعض المحللين، إن تهرب البلدان الغربية من تحمل مسؤوليتها والوفاء بالتزاماتها وفقا للقانون الدولي بشأن الوضع الرهيب في غزة، يجد تفسيره في الحمولة التاريخية القوية للإبادة الجماعية، ووقعها الشديد في تاريخ ومخيال هذه البلدان، التي تجد نفسها في مواجهة مع ماضيها، وهي التي لم تتحرر بعد من عقدة وخطيئة مشاركتها وتواطئها بدرجات وأشكال متفاوتة في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية. وليس هناك أفصح تعبير عن هذا الوضع من مثال ألمانيا التي لم تستطع التخلي عن دعمها غير المشروط لإسرائيل على الرغم من كل ما ترتكبه حليفتها من فظاعات في غزة.
وبصرف النظر عن وطأة التاريخ وثقله، لا بد من العودة الى القانون، لأن الوقاية من حصول جريمة الإبادة الجماعية والحيلولة دون ارتكابها يعتبر تعهدا ملزما ومسؤولية لا لبس فيها تقع على عاتق جميع الدول بمقتضى اتفاقية منع الإبادة والمعاقبة عليها لسنة 1948. ووفقا لهذه الاتفاقية، ليس هناك للدول الأطراف فيها خيار آخر غير الوفاء بالالتزامات التي تفرضها عليها الاتفاقية بخصوص منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. ومن ثم، لا ينبغي للدول فيما يتعلق بالتزاماتها الناشئة عن هذه الاتفاقية الاستخفاف بقرارات محكمة العدل الدولية بشأن الوقاية من الإبادة ومنعها والعقوبة عليها، ولا تبخيس أوامرها الاستعجالية الملزمة والتدابير الاحترازية التي تأمر باتخاذها في هذا المجال، تحت طائلة انتهاك هذه الدول للقانون الدولي فيحق عليها في هذه الحالة وصف الدول المارقة التي تنتهك ميثاق الأمم المتحدة. وعلاوة على ذلك، يتعين عدم الاستهانة بفرضية تحريك المتابعة القضائية ضد الدول الحليفة والداعمة لإسرائيل، وإثارة وتحديد مسؤوليتها وإدانتها بسبب عدم تدخلها بالقدر الكافي، وامتناعها عن اتخاذ التدابير اللازمة باللجوء الى الطرق التي ينص عليها القانون الدولي لمنع وإيقاف ارتكاب إسرائيل للإبادة الجماعية ضد السكان الفلسطينيين في قطاع غزة (المواد 5 و8 من اتفاقية 1948من ضمن قواعد أخرى كثيرة للقانون الدولي).
وفي جميع الأحوال، وفضلا على اتفاقية منع الإبادة الجماعية توجد قواعد أخرى للقانون الدولي تستمد أساسها من اتفاقيات جنيف للقانون الدولي الإنساني لسنة 1949، التي تلزم الدول الأطراف بمحاكمة مجرمي الحرب وتكرس مبدأ عدم إفلاتهم من العقاب وتقديمهم الى العدالة، غير أن بعض الدول الغربية أبدت تحفظا مريبا بشأن التزامها باحترام وتنفيذ مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية ضد الوزير الأول لإسرائيل. وارتباطا بالأفعال التي تكون جريمة الابادة الجماعية، تعتبر اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة لسنة 1984 أساسا صلبا وملزما للدول يفرض عليها مسؤولية التدخل للوقاية من الإبادة ومنع ارتكابها.
ومن المعلوم ان ميثاق الأمم المتحدة أيضا، يفرض مجموعة من الالتزامات على الدول الأعضاء ويتضمن "دليلا" يحدد بشكل متدرج الإجراءات والتدابير الردعية التي يمكن للدول ولمجلس الامن اللجوء اليها من أجل التدخل لفض النزاعات الدولية. وهكذا ينص الميثاق على مجموعة من "الأعمال" التي تندرج ضمن وسائل الضغط ب "القوة الناعمة" قبل اللجوء بعد استنفادها وعدم تحقيقها للغرض المطلوب الى التدخل باستعمال القوة العسكرية، رغم أن اجتهاد محكمة العدل الدولية في قضايا سابقة بشأن الإبادة الجماعية قد رجح استبعاد هذه الوسيلة على اعتبار أن خيار شن الحرب غير مرغوب فيه لفرض احترام اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
و الواقع أن امتناع الدول الحليفة بشكل وثيق لإسرائيل و التي توفر لها الدعم العسكري غير المشروط ،عن إعمال التدابير والوسائل المشار اليها لوقاية الفلسطينيين من التعرض للإبادة كان موقفا منتظرا ، إلا أن المتوقع أيضا ،أن حكومات دول مثل ألمانيا والولايات المتحدة و بريطانيا سوف تدعي بأنها حذرت حليفتها إسرائيل من مغبة ارتكاب جريمة الإبادة ، لأن هذه الحكومات تدرك جيدا أنها باستمرارها في تزويد إسرائيل بالسلاح والعتاد ووسائل القتل والدمار في الحرب على المدنيين في غزة، فإنها تنتهك بشكل جسيم قواعد القانون الدولي ( نشير مثلا الى دعوى نيكاراغوا ضد المانيا امام محكمة العدل الدولية في فاتح مارس 2024 التي وجهت فيها لألمانيا تهم انتهاك التزام الوقاية من الإبادة في الأراضي الفلسطينية المحتلة و المشاركة فيها...) ومن المحتمل ان يعرضها هي أيضا للمتابعة القضائية . واعتبارا لخطورة الأفعال التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة، والالتزامات الواضحة والدقيقة التي تترتب عن اتفاقية منع الإبادة الجماعية واتفاقيات جنيف للقانون الدولي الإنساني، وبدافع الاحتياط الكبير عندما يتعلق الأمر بتكييف الجرائم الدولية، فإن المسؤولين السياسيين في الدول الداعمة لإسرائيل يحرصون
أشد الحرص على انتقاء المفردات والعبارات في تصريحاتهم بخصوص أفعال وتصرفات حليفتهم في قطاع غزة، لأنهم على بينة تامة من تبعات هذه التصريحات والأوصاف، وما قد تنطوي عليه من قرائن تبرر الملاحقة الجنائية أمام العدالة الدولية. غير أن اختيار هؤلاء المسؤولين لكلماتهم ومصطلحاتهم بدقة وعناية فائقة لا يحميهم مع ذلك من المتابعة القضائية ،من أجل إجبارهم على الوفاء بالتزامات بلدانهم بخصوص احترام القواعد الآمرة للقانون الدولي المتعلقة بالوقاية من الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
وقد اشرنا بهذا الصدد الى دعوى جمهورية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية(دجنبر 2023) بسبب خرقها لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية وارتكابها لهذه الجريمة في قطاع غزة ،ودعوى نيكاراغوا ضد ألمانيا أمام نفس المحكمة في أبريل 2024 بتهمة عدم الوفاء بالتزاماتها طبقا للقانون الدولي و" تسهيل ارتكاب إبادة جماعية " ضد الفلسطينيين وانتهاكها لاتفاقية 1948 لمنع جريمة الإبادة .وفي نفس السياق ،يمكن الإشارة أيضا الى تحريك مساطر قضائية أخرى من طرف بعض منظمات المجتمع المدني في بريطانيا ،من أجل توقيف الحكومة لتصدير الأسلحة والمعدات العسكرية الى إسرائيل بسبب الاحتمال القوي لاستعمالها في انتهاك القانون الدولي في قطاع غزة . كما أن جمعية القانونيين الفرانكوفونيين من أجل احترام القانون الدولي، وجهت في مايو 2025 رسالتين تحذيريتين الى كل من مفوضية ومجلس الاتحاد الأوروبي تتهمهما بالاستمرار في تقاعسهما أمام الخطر الفعلي لارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في غزة، وتطالب الاتحاد الأوروبي بالتعليق الفوري لجميع اتفاقيات التعاون مع إسرائيل بما فيها اتفاقية الشراكة والبرامج العلمية، مع التهديد باللجوء الى محكمة عدل الاتحاد الأوروبي لمقاضاة هذه المؤسسات. ولجأت جمعيات مدنية أخرى في بلجيكا وفرنسا الى القضاء الوطني لتقديم دعاوى ضد عدد من عناصر الجيش الإسرائيلي الحاملين للجنسية المزدوجة بتهم المشاركة في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية والتحريض على ارتكابها والمشاركة في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة.
وهكذا يمكن ملاحظة بروز ضغط متصاعد للرأي العام الدولي أرغم بعض رؤساء الدول والحكومات الغربية خاصة على الخروج من صمتهم، والتلويح بلغة يطبعها الكثير من الحرج والارتباك بإمكانية فرض بعض العقوبات على إسرائيل، لكن مع استمرارهم في الامتناع عن وصف الأفعال التي ترتكبها إسرائيل بالإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة.
فإذا رجعنا مثلا إلى تصريح الرئيس الفرنسي الذي أشرنا إليه سابقا، والذي تهرب فيه من وصف ما ترتكبه إسرائيل في غزة بالإبادة الجماعية، متجنبا الموضوع ومستنجدا بإحالة مسألة تكييف هذه الوقائع والأفعال الى المؤرخين، سيتأكد تردد وعزوف عدد من المسؤولين عن التصريح بأمر خطير يدركون مدى تبعاته القانونية والسياسية. إلا أن تجاهل الرئيس الفرنسي بشكل كامل للعدالة الجنائية الدولية يعكس مظهرا من خصوصية النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني أمام العدالة الدولية، كما يكشف المفارقة التي ما فتأت تطغى على مواقف هؤلاء المسؤولين عندما يتعلق الأمر بدعم هذه العدالة والإحجام عن عرقلة أدوارها ومهامها في القضايا المعروضة عليها ضد إسرائيل.
ويمكن الخلوص من كل ما حاولنا توضيحه، أن مواقف الدول الغربية عموما إزاء آليات العدالة الدولية، تظل رهينة ازدواجية صارخة حينما تتعلق القضايا التي تنظر فيها بالنزاع الإسرائيلي –الفلسطيني. فمن جهة، يطلب من هذه العدالة التدخل في الحدود الدنيا الممكنة في هذا النزاع، ومن جهة أخرى، يتم بطرق شتى وبمبررات وتأويلات متهافتة، إما الرفض الصريح لتنفيذ مذكرات القبض على " نتانياهو" ووزير الدفاع الإسرائيلي التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية، أو التشكيك في استقلالية قضاتها ونزاهتهم وحتى الضغط عليهم وتهديدهم وفرض العقوبات عليهم (مواقف إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية...). ولا شك أن أصحاب هذه المواقف يسعون الى زعزعة الثقة في العدالة الدولية وتقويض مصداقيتها. وتكشف هذه المواقف أيضا الجنوح السيئ لبعض الدول الغربية نحو ازدواجية المعايير والانتقائية في التعامل مع القضايا المعروضة على العدالة الدولية. ويكفي للتدليل على هذه الازدواجية التذكير أنه إثر متابعة الرئيس الروسي "بوتين"، من طرف المحكمة الجنائية الدولية وإصدار مذكرة اعتقال ضده، بتهمة ارتكاب جرائم دولية في "أوكرانيا "، لم تصرح أية دولة غربية بعزمها على عدم التعاون مع المحكمة، بل على العكس من ذلك لقد كانت العدالة الدولية في هذه الحالة مطلوبة ومرغوب فيها، بينما ووجهت هذه العدالة نفسها بالنفور والتحدي و"العصيان " عندما تصدت للنظر في الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة.
 
 
محمد العمارتي / أستاذ القانون الدولي بكلية الحقوق بوجدة – سابقا-