الخميس 28 مارس 2024
فن وثقافة

رحيل صاحبة الحرم يا رسول الله: جميلة بنعمر.. أجمل ما فيك أنك طفلة    

رحيل صاحبة الحرم يا رسول الله: جميلة بنعمر.. أجمل ما فيك أنك طفلة     الراحلة جميلة بنعمر
وترحل جميلة ...وترحل صاحبة الصوت الجميل ...صاحبة الصوت الطفولي البريء ...صاحبة الصوت الملائكي النظيف " الحرم يا رسول الله "...
أحببناك ونحبك ...لك الرحمة والمغفرة يا عصفورة الجنة ...زوجك أمين وابنك محمد وبناتك أسماء وجيهان وحفصة يكنون لك الحب الصافي الصريح ...كنت الأم المثال وكنت الزوجة النموذج ...وكنت أختنا وعزيزتنا ...الله يرحمك يا أغلى جميلة ويا أعز جميلة ...أحببناك ونحبك ...
يحق لنا أن نبتهج أن هذه الأرض أعطت هكذا ثمار....أعطت جميلة بنعمر
كانت  امرأة استثنائية ببراءتها ... هي امرأة نبتت في تربة هذا البلد، خرجت من قاع المغرب ... من شرقه ... من وجدة ... المرأة التي انسلت منسحبة من الأضواء إلى التمدد في احترامنا لها، هي من ملأت حياتها بلا دوي، بالوقوف هادئة في مواجهة الصخب ...جميلة وليس أحد غيرها ... لا تزاحم أحدا على "مساحة" ولا على "تفاحة"... بإرادتها وإصرارها تنسج نسيجها المييز....
كعادة ألأنهار، تنزل من القمم لتسقي السهول، انحدرت جميلة  من وجدة، لتصبح منذ طفولتها امرأة ممسكة بزمام مسار حياتها، حملت في صدرها كبرياء القمم وإصرار الأنهار على المضي قدما مهما صعبت المسالك، تشق مجراها بصبر وثبات، إذ لم يكن من السهل على يافعة مثلها أن تلتحف أحلامها وتنتعل طموحها، وتتعطر بوعيها الفني المبكر، وتضرب في الأرض " منتصبة القامة مرفوع الهامة "؛... محصنة أخلاقيا وفكريا ... الحب  هو العنوان...
 وهي طفلة، وهي تنمو، نما فيها حب أمين بشير والانخراط في بناء أسرة... مستعدة لتخسر كل شيء إلا ولدها وبناتها ... مستعدة لتتنازل عن كل شيء إلا أنها جميلة المحبة لزوجها.. إنها كالنهر يعود إلى نبعه والماء الى مصبه الطبيعي ..
.جميلة أم ...أمومة تحولها لحنا يدمع الأحاسيس مرات أو يعلن العطف والحب مرارا....
منذ بداية البدايات عشقت الكلمة وداعبت القلم ...عز عليها ان تسقط فتستجيب لطيور الظلام ...عز عليها ان تخفي وجهها الصبوح بأقنعة قذرة ...لم تطق لها سقوطا لهذا اقتحمت قطار الفن الراقي " الحرم يا رسول الله " مهما غضب السيد والجلاد ...أصرت على ان تبقى الراية مرفوعة والوردة مزهرة حتى وان كان الزمن زمن جهل ورداءة ...اذن فلا خوف علينا اذا ادلهمت بنا الافاق من ان لا نجد فنانة مقتدرة تنبهنا وتهدينا ...فان جميلة التي أطلقت في زمن الصمت صرخة ، قادرة على جعل الناس يعشقون الورد ...
تعطرت بوعي فني  مبكر ، وضربت في الأرض في مرحلة حرجة من تاريخ المغرب ...في سن مبكرة بدأ تشكل الوعي الجمالي والانخراط في الاختيار الصحيح ...اختارت ان تكون انسانة...
عانقت الفن  وهي بالكاد شابة.. شكلت وما زالت قيمة مضافة للأغنية الدينية الملتزمة ...تحاصرها اسراب البوم كليالي النفاق طالعة من جحور القبيلة فتلقاها معتصمة باختيارها ...الفنانة صاحبة قضية ، وعلى جميلة ان تواجه الامواج والاعصار ...فهذه قناعتها وهذا واجبها....وهذه مهمتها..والا فليرحل من هذا العالم الذي في حاجة الى العواطف النبيلة وشيء من التضحية ...هكذا كنا نرى الجميلة جميلة  ترى الاشياء ...وهكذا كنا نتصورها تتصور العالم الذي نحن فيه ...فليخجل من انفسهم أولئك الذين يحصدون ونحن الزارعون ....شافاكم الله ! لكم التين ولنا الزيتون ، وبين التين والزيتون ، امنت جميلة ان الأمومة  ليس شعارا يرفع ولا صفة للتزيين ...الأمومة ايمان وجداني ومنح عاطفي...الأمومة ثمرة حب بارتباط صوفي ...أحببت أمين وولدت معه ...هذا جوهر كينونتها وعنوان هويتها ...الصدق هو سيد الميدان ...وقفت جميلة فوق خشبة الحياة وأعلنت رفضها للذل والمهانة ...انها عاشقة....
بعد طفولة هادئة باللون الأبيض والأسود ، بالجدية وشيء من الشغب ،تصطحب ظلها لمواجهة المجهول...لمجابهة المثبطات ، لعناق الامل ، ودائما تحمل في كفها دفاتر وورودا ، وفي ذهنها أفكار ومبادرات ، وعلى كتفها مهام ومسؤوليات ، فهي تكره الفراغ...ان الزمان الفارغ يعدي الناس بفراغه ...وحين يكون الشعور هامدا والاحساس ثابتا ، يكون الوعي متحركا ...وعي بأن الحياة خير وشر ..مد وجزر...مجد وانحطاط ...ولكن هناك حيث توجد الإرادة ويكون الطموح ...تكون المبادرة ويكون التحدي ...تكون الطريق المؤدية إلى النتائج ...وتقول جميلة:" لا تهمني الحفر ولا اعيرها اي انتباه " ...منذ بداية البدايات كشفت عن موهبة تمتلك قدرة النجاح ، في الحب والفن ، وتظل دائما ودوما متمسكة بطموح النجاح في الثالوث الذي يؤثث مسارها؛ الزوجة ، الأم  ، الوفاء...
كانت تكره اللغة السوداوية والنزعة العدمية ...تكره الأسلوب المتشائم ولغة الياس والتيئيس ...لا...هي امرأة جد  متفائلة ، والعينان تعبران بالابتسامة عن هذا التفاؤل ...وهذا الطموح ...وهذا الحب اللامشروط للحياة رغم الكابة في السماء والأسى لدى الاخرين ...قد يكون الماضي حلوا إنما المستقبل 
لا يمكن أن تحشر في زمرة النساء العاديات ، فهي ليست منهم ، لأنها محصنة ، ولكنها كانت  تعرف ان الطريق ألغام وكوابيس ...وقائع وانفجارات ..دسائس واشاعات ...لهذا كانت  تمضي بحكمة وثبات ...تفضح الكوابيس وتنبه الى صخبها ...تنبه إلى الاغراءات وتحذر من مخاطرها ...لترتفع  إلى مقام المسؤولية الملتزمة ....وليست منهم لانها رضعت الاناقة والانافة في معبد الفن...فاسمحوا لي ان أعلنها جميلة الجميلات ...رحمها الله...
لجميلة حضور انساني قوي ، حضور ينشدها كل يوم ويذكرها ،بل ويغنيها ويتصاعد في تناغم مع مسار عائلي وفني ...هي اصلا تربت ضد الصمت ..تربت على كره النفاق والغدر ..وهي طفلة ، وهي تنمو ، نما فيها كره الاختفاء وراء الأقنعة ...مترفعة في لحظات الهرولة ...واثقة في زمن التيه ...مؤمنة بان العلاقة الانسانية حب وصدق...وان الوفاء اختيار والتزام ...رحمها الله ...
تلقت تربية زرعت فيها الإمساك بزمام مسار حياتها مهما كانت العراقيل والعوائق ...تربية زرعت فيها الصمود والتصدي ...تنفست عبق تربية هادفة ومسؤولة ...تربية تعتمد الجدية والصرامة مرات وتعلن الليونة والمرونة مرارا...تمطر حبا حينا ونارا احيانا....رحمها الله ...
انسانة بشوشة في طيبوبتها ، وطيبة ببشاشتها ...قوية بهدوئها ، وهادئةبقوتها ...هكذا كما كنا نعرفها، اسمها جميلة ...اجتماعية بطبعها...وما اسهل تاقلمها في المجال اذا ارادت بمحض إرادتها ، دون أن تخضع لأي أمر او قرار ...تحب كل من يحبها ...رحمها الله ...