Thursday 31 July 2025
كتاب الرأي

ميمونة الحاج داهي: حين يتحوّل خطاب العرش إلى مرآة للضمير الوطني وصيحة للعدالة والإنصاف

ميمونة الحاج داهي: حين يتحوّل خطاب العرش إلى مرآة للضمير الوطني وصيحة للعدالة والإنصاف ميمونة الحاج داهي
لا أدري ما بالي اليوم، غلبتني دموعي حين رأيته يطلّ واقفًا من خلف الشاشة، كل تحليل لخطاب اليوم، مهما بلغ عمقه، لن يفيه حقه.
قال: شعبي العزيز… فقلتُ: لبّيك ملكي..
"شعبي العزيز" لم تكن مجرد صيغة افتتاح رسمية، بل كانت جملة محمّلة بما يكفي من المعنى لتوقظ سؤالًا عميقًا فينا: أين نقف نحن من هذا المشروع الوطني؟ هل نحن مواطنون يُنصت إليهم فعلاً، أم مجرد مستهلكين للخطابات؟
لكن الجواب جاء من نفس المنبر:
لم يتحدث إلينا الملك كمجموعة ناخبين، بل خاطبنا بصفتنا ركن أصيل في معادلة الحكم، والإنصاف، والشرعية.
فقلتُ: لبّيك، ملكي.
لم أقلها لأن الولاء يُطلب، بل لأن العقل يُحترم. لأننا حين نسمع من يحكمنا يتحدث عن "عدم رضاه" رغم نسب النمو، ويدعو إلى تجاوز مغرب يسير بسرعتين، ندرك أن في الأمر ما هو أعمق من التسيير… فيه إرادة تصحيح المسار.
لقد اعتدنا أن نسمع في خطب عيد العرش استعراضا للمنجزات، لكن خطاب هذه السنة بدا مختلفا في نبرته، مباشرا في مقاصده، صارما في منطقه. لم يكن خطاب احتفال، بل خطاب محاسبة سياسية ناعمة، تطرح السؤال الأهم: هل وصلت ثمار النمو إلى المواطن؟
وهنا مربط الفرس:
الملك لا يفاخر بما تحقق من أرقام، بل يُحاكمها بمنطق العدالة.
فمن دون أثر ملموس على حياة الناس، تصبح كل المؤشرات مجرّد عُملات رمزية في بورصة الشرعية.
في هذا السياق، بدا المغرب في الخطاب كدولة صاعدة بثقة، تحققت فيها إنجازات صناعية وتجارية واقتصادية معتبرة. قطاعات الطيران والسيارات والطاقات المتجددة تُحرك دينامية اقتصادية، واتفاقيات الشراكة تربط اقتصادنا بثلاثة مليارات مستهلك حول العالم.
لكن هذا الصعود العمودي، لا يُقنع الملك إن ظلّ المواطن أفقيًا، على هامش الازدهار. فليست الغاية أن يكبر المغرب كشركة، بل أن يُحتضن المواطن في تفاصيل هذا النمو.
ومن هنا، جاءت جملة "لا مكان اليوم ولا غدا لمغرب يسير بسرعتين" كعبارة فاصلة، أشبه بإنذار ناعم لنموذج تنموي سابق لم يُنصف الجغرافيا، ولم يعترف بما يكفي بحقائق التفاوت.
ومن هنا أيضا، يصبح واضحا أن الملك لا يوجّه الانتقاد، بل يحرّض الدولة على تجاوز نفسها.
وهذا ما يجعل الخطاب فريدًا: فهو لا يكتفي برصد الاختلالات، بل يدفع نحو قلب المقاربة. من دولة ترعى التفاوت، إلى دولة تُعيد توزيع القيمة بعدل، وتؤمن أن المواطن ليس هامشا في تقرير دولي، بل هو جوهر الشرعية السياسية نفسها.
وبينما تشكل العدالة الاجتماعية جوهر الخطاب، يُطل ملف الصحراء كركيزة الاستقرار والامتداد. بدون انفعال أو ضجيج، يذكّر الملك بمواقف داعمة من قوى دولية كالمملكة المتحدة والبرتغال، ما يعكس وزنا دبلوماسيا لا يتوسّل الشرعية، بل يصنعها بثبات وهدوء.
ولعل أكثر ما يلفت في هذا الجزء، هو تأكيده على حل "لا غالب فيه ولا مغلوب"، كصيغة تحفظ ماء وجه الجميع. وهي ليست ضعفا، بل قمة الحنكة السياسية: حين يكون الوطن قويا بما يكفي ليُقدّم حلا عاقلا، دون أن يفرّط في شبر أو في سيادة.
وفي امتداد هذه الروح، ينتقل الخطاب ليجعل من كرامة المواطن معيارا للسيادة. فلا مكان لبنى تحتية أنيقة إن ظلت قرى كاملة دون ماء أو مدرسة أو مستشفى.
ولا معنى لحماية اجتماعية لا تلامس الفئات الهشة، ولا تُعيد الاعتبار لأولئك الذين يعيشون في المغرب المنسي، لا المغرب المعروض على شاشات المؤتمرات الدولية.
هنا، لا يكون الملك مطالبا بأن يُنقّح الأخطاء فحسب، بل يظهر كمن يُعيد ترتيب الأولويات الوطنية. فالمغرب القوي ليس ذاك الذي يُراكم المشاريع فقط، بل الذي يُنصف الإنسان، ويزرع التنمية بعدالة، العدالة كحق أولا وأخيرا.
ولذلك، حين قال: "شعبي العزيز..."، أدركنا أنه لم يكن يقرأ افتتاحية خطاب، بل يكتب لنا سطرت جديدا في دفتر الشراكة والمسؤولية.
وحين قلنا: "لبّيك، ملكي"، لم نقلها طمعا، ولا مجاملة، بل إيمانا بأن من يحكمنا بعقل، يستحق أن نمنحه صوتنا وولاءنا.