شهد المغرب خلال ستة وعشرين سنة من حكم الملك محمد السادس دينامية جديدة من الإصلاحات الاستراتيجية، في إطار سياسة فتح الأوراش المهيكلة التي شملت مختلف مناحي الحياة، وخاصة في المجال الثقافي والسمعي البصري، باعتباره رافعة للتنمية، وأداة لترسيخ القيم والانفتاح، وتعزيز إشعاع المملكة إقليميًا ودوليًا.
وقد كان لهذه الإصلاحات طابع الاستمرارية لا القطيعة، إذ تم البناء على المكتسبات، وتعميق الأوراش الكبرى، وابتكار أدوات جديدة للتمويل والتنظيم، في انسجام مع النموذج التنموي الجديد للمملكة، الذي أعاد ترتيب أولويات السياسة العمومية، وجعل من الثقافة والإبداع أحد محركات الاقتصاد والمعرفة.
قوانين جديدة تُعزز مسارًا تاريخيًا عريقًا
انطلقت السينما المغربية منذ بدايات القرن العشرين، وتجلّت أولى إشارات التنظيم القانوني سنة 1916 بتشريعات الاستغلال السينمائي، تلتها مراحل متتالية من التقنين، خاصة بعد الاستقلال، حيث واصل المغرب تطوير الإطار القانوني لهذه الصناعة الحيوية.
وفي عهد الملك محمد السادس، شهد هذا المسار دفعة قوية، مع صدور القانون 20.99، ثم القانون 70.17، وأخيرًا القانون 18.23 الذي أعاد هيكلة المركز السينمائي المغربي، ورسّخ مبادئ الحكامة، الشفافية، والمسؤولية، بما يتماشى مع رهانات عصر التحول الرقمي والتنافسية الثقافية.
وفي هذا الإطار، تم إرساء نظام دعم عمومي متكامل للإنتاج السينمائي والسمعي البصري، مكّن من تمويل مئات المشاريع الوطنية، وأسهم في بناء نسيج إنتاجي متنوع، يدعم المواهب الجديدة، ويعزز مكانة المغرب على الساحة الدولية. وقد تحوّل هذا الدعم إلى رافعة حقيقية للحداثة الثقافية، من خلال تشجيع المواضيع المتنوعة واللغات والهويات المختلفة.
رؤية ملكية ترسم المسار
الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى المشاركين في المناظرة الوطنية للسينما سنة 2012 شكّلت وثيقة مرجعية غير مسبوقة، أكدت فيها الإرادة العليا بجعل السينما أداة للتنمية ووسيلة للتربية والحوار والانفتاح، ورافعة للإشعاع الثقافي والدبلوماسي. لقد وُضعت السينما في صلب المشروع المجتمعي، باعتبارها من أدوات القوة الناعمة للدولة المغربية.
إشعاع دولي ومهرجانات عالمية
في عهد الملك محمد السادس، تم إحداث مهرجان مراكش الدولي للفيلم سنة 2001، والذي سرعان ما تحوّل إلى موعد عالمي مرموق، تستقطبه كبرى الأسماء في عالم السينما من مخرجين ونجوم وصحافيين ونقاد، من مختلف القارات. لم يعد المهرجان مجرد تظاهرة إفريقية أو عربية، بل أصبح منصة دولية للحوار الثقافي، ونافذة مشرّفة للمغرب على العالم.
كما عرف المهرجان الوطني للفيلم بطنجة انتظامًا سنويًا بفضل الاستقرار المؤسساتي، ليصير منصة مهنية لتقييم الإنتاج الوطني، ومنبرًا لتشجيع المواهب والاحتفاء بالإبداع المحلي، ومناسبة لتثمين الصناعة السينمائية الوطنية في بعدها الفني والتجاري.
بنية تحتية متطورة وتوسع الإنتاج
عرفت البنية التحتية السينمائية قفزة نوعية، من خلال تطوير استوديوهات ورزازات وتحويلها إلى قطب إقليمي لصناعة السينما العالمية، وإنشاء قاعات عرض متعددة الشاشات، ورقمنة البث، وتوسيع قاعدة الإنتاج الوطني والدولي. كما تم تبسيط المساطر الإدارية لجذب الإنتاجات الأجنبية، ما جعل المغرب وجهة مفضلة لكبرى الشركات العالمية.
إصلاح شامل في المجال السمعي البصري
شهد القطاع السمعي البصري بدوره إصلاحات هيكلية، تمثلت في إقرار قانون السمعي البصري، وإنشاء الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري (الهاكا)، التي تشرف على ضمان التعددية والانفتاح والإنصاف في الوصول إلى وسائل الإعلام. وقد مكنت هذه الإصلاحات من تحرير الفضاء الإعلامي، وتحديث منظومة القنوات العمومية، بما يعكس الغنى الثقافي واللغوي للمغرب.
وفي إطار هذه الرؤية المتكاملة، تم تعزيز دور المكتب المغربي لحقوق المؤلفين والحقوق المجاورة، كمؤسسة استراتيجية تسهر على حماية الحقوق المادية والمعنوية للفنانين والمؤلفين، وتوزيع العائدات بشكل عادل وشفاف، وفقًا للمعايير الدولية.
رعاية ملكية للفنان المغربي
عناية الملك محمد السادس، بالفنان لم تقتصر على التشريع، بل امتدت إلى المجال الاجتماعي، من خلال إحداث التعاضدية الوطنية للفنانين، وهي مؤسسة اجتماعية جاءت بتوجيهات ملكية سامية، بهدف توفير التغطية الصحية والاستشفائية للفنانين المغاربة، والاهتمام بأوضاعهم الإنسانية، في تجلٍّ راقٍ للرؤية الملكية التي تجعل من الثقافة والفن ركيزة من ركائز الكرامة والتنمية البشرية.
إشعاع ثقافي واستقطاب عالمي
بفضل المناخ الاستثماري المستقر، وتوفر البنيات والكفاءات، أصبح المغرب مركزًا دوليًا للإنتاجات السينمائية الكبرى، حيث صُوّرت فيه أعمال عالمية شهيرة. هذا الحضور الدولي يعكس الصورة الحديثة للمملكة، ويجعل من السينما المغربية شريكًا في الحوار الحضاري العالمي.
آفاق جديدة مع كأس العالم 2030
ويُنتظر أن يُشكّل تنظيم المغرب لكأس العالم 2030 إلى جانب إسبانيا والبرتغال، مناسبة استثنائية لخلق فرص مهنية جديدة في قطاع السمعي البصري، من خلال تصوير الإعلانات، وتغطية المباريات، وإنتاج برامج تلفزية وسينمائية ترافق هذا الحدث العالمي. إنها فرصة تاريخية أمام المبدعين والمنتجين المغاربة لتأكيد كفاءاتهم والانخراط في دينامية وطنية ذات إشعاع كوني.
منجزات في ظل قيادة الملك
ستة وعشرون سنة من قيادة الملك محمد السادس لم تكن فقط فترة إصلاحات، بل تجربة حضارية متكاملة، أعادت للفن والثقافة مكانتهما في المشروع التنموي، ورسخت مكانة المغرب كقوة ثقافية ناعمة على الصعيدين الإقليمي والدولي.
وإننا، كمهنيين ومنتجين وفنانين، نعبّر عن اعتزازنا العميق بالانخراط في هذا الورش الوطني الطموح، ونجدد التزامنا بخدمة قضايا الثقافة والإبداع، تحت قيادة الملك، وبتعاون وثيق مع وزارة الشباب والثقافة والتواصل، والمركز السينمائي المغربي، والهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، والمكتب المغربي لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة.
الحسين حنين/ رئيس الغرفة المغربية لمنتجي الأفلام