حين ننظر إلى المجتمعات الحديثة، خصوصًا في الغرب، نُبهَر بإنجازاتها التكنولوجية، وتطوّرها المؤسساتي، وتنوّعها الثقافي، ولكن خلف هذه الواجهة البراقة، هناك تصدّع داخلي عميق يسير بهدوء، كما لو كان جرحًا لا يراه صاحبه إلا بعد فوات الأوان.
هذه الكلمات ليست استباقًا سوداويًا، بل محاولة لفهم ما يمكن تسميته بـ”الإنحطاط الناعم”—ذلك التآكل الخفي الذي يصيب المجتمعات من الداخل، لا عبر الفقر أو الحروب، بل من خلال فائض نجاحها نفسه.
المدينة الحديثة: مسرح التآكل الهادئ
ليست المدينة المعاصرة مجرد فضاء عمراني، بل منظومة ثقافية تنعكس فيها هوية المجتمعات وسلوكها الجمعي. حين تفقد المدينة روحها وتتحوّل إلى آلة استهلاكية ضخمة، يذوب فيها الإبداع وتضيع فيها المبادرة، فإنها لا تنهار فجأة، بل تتآكل من الداخل. تُستبدل فيها الحيوية الثقافية بعروض استعراضية زائفة، ويتحوّل الإعلام من سلطة تنوير إلى أداة لتغليف التفاهة، وتصير وسائل التواصل الاجتماعي مرايا ضخّمت الهشاشة وحوّلتها إلى نمط حياة.
الانحطاط الموروث: جيل جديد يولد في العتمة
الجيل الصاعد لا يدخل هذا العالم بمنظار منحرف، لكنه يجد نفسه في محيط ملوّث ثقافيًا وأخلاقيًا، فلا يملك القدرة على التمييز بين الأصالة والتقليد، ولا بين الجوهر والمظهر. يتعلّم كيف يرضى بالقليل من المعنى، ويُقنع بأنه ناجحٌ ما دام يلقى تصفيقًا افتراضيًا، حتى لو لم يُنجز شيئًا ذا قيمة. وهكذا، تتحوّل “التفاهة المؤسسية” إلى عنوان العصر، ويُعاد تدوير الرداءة بوصفها “تحضّرًا”.
السوشيال ميديا والإعلام: صناعة الوعي المُعلّب
الإعلام اليوم لا يُعلّم، بل يُبرمج، لا يُرشد، بل يُغري. والسوشيال ميديا، التي وُلدت كأداة تحرّر، صارت منصّة لتفكيك المعايير، وبثّ التفاهة، وتزييف الواقع. المشكلة ليست في التقنية، بل في منطقها السائد: السطحية، السرعة، والاستعراض. المجتمعات التي تنبهر بهذه القوالب، تُصاب بعدوى الانحدار دون أن تشعر، وتتنافس على استنساخ نموذج غربي فقد بدوره اتزانه القيمي.
صراع غير متكافئ: الوعي في مواجهة القطيع الرقمي
وسط هذا الطوفان من الانحدار، تظهر محاولات فردية أو جماعية للمقاومة: أصوات ترفض الانصهار في القالب، تكتب، تفكر، تصرخ… لكنها تبقى هامشية، محاصَرة بزخم المحتوى الزائف وبهوس المتابعة والشهرة. النخبة الواعية تواجه تحديَ البقاء في زمن لا يسمع إلا لمن يهمس بلغة الترفيه والتبسيط المُخلّ.
المغرب.. مرآة الانعكاس أم استثناء الوعي؟
في هذا السياق، يطرح الواقع المغربي سؤالًا ملحًا: هل نحن نعيد إنتاج نفس الوهم؟ لدينا، بلا شك، ذاكرة جماعية غنية، وتراث أخلاقي وثقافي متجذّر، ولكننا أيضًا في مرمى عدوى النماذج السريعة، ومُهدَّدون بإعادة تدوير التفاهة تحت مسميات “التحديث” و”النجاح”. الانهيار، إن حصل، لن يكون ماديًا، بل معنويًا: سقوط في وهم التقدّم، وتآكل صامت للقيم.
من الإنكار إلى المبادرة: مناعة مغربية في وجه الانحدار
إذا أردنا تفادي هذا المصير، فلا بد من تأسيس مناعة حضارية مغربية، لا تستنسخ الحلول، بل تبتكرها من عمق الأرض والتاريخ.
الوعي لا يأتي بالصدفة، بل يُبنى بتراكم الخيارات الصحيحة، وهذه بعض الخطوات الجوهرية:
تجديد المعنى من داخل الروح المغربية
علينا أن نُعيد تعريف النجاح من منظور مغربي أصيل: حيث الكرامة أسمى من الاستهلاك، والمعنى أعمق من المظهر. المغرب هو التقاء الهويات، لا تناقضها. ولن ننهض إلا إذا جعلنا من تنوعنا مصدرًا للتماسك، لا مادة للشرذمة.
مدرسة تُعيد الإيمان بالفكر
التعليم ليس تلقينًا، بل مشروع تحصين حضاري. مدرسة تُحفّز النقد، وتُعلّم التمييز، وتربط الطفل بأرضه، وبلغته، وبأسئلته، لا بأجوبة جاهزة تُستورد وتُكرَّر.
إخراج النخب من الظلّ
في كل حيّ مغربي هناك مثقف مقاوم، معلّم حرّ، فنان صادق، لا ينتظر دعمًا بل اعترافًا. ينبغي أن تُكسر الحواجز بين هؤلاء والمجتمع، عبر سياسات تُشركهم في صياغة الوعي الجماعي بدل إقصائهم.
تفكيك هيمنة التفاهة الرقمية
لابد من إعادة صياغة علاقتنا بالسوشيال ميديا: من مستهلكين مبهورين إلى منتجين ناقدين. وهذا يتطلب إعلامًا جادًا، ومحتوى محليًا أصيلًا، وتأطيرًا تربويًا رقميًا يُعيد التوازن إلى المشهد.
مصالحة مع فعل الانتماء
الانتماء ليس شعارًا يُعلَّق في الخطابات، بل ممارسة تُغرس في المدرسة، وتُصاغ في الفن، وتُجسَّد في السياسات. الانحطاط ينمو حين تنفصل الأجيال عن جذورها، بينما المناعة تبدأ حين يشعر الفرد أنه يملك هذا الوطن لا أنه مجرد عابر فيه.
الانحطاط خيار… وكذلك اليقظة
لسنا مُجبرين على الانجراف مع السيل، ولا مَعذورين إن سِرنا بأعينٍ مفتوحة نحو الهاوية. فما زال فينا بقية عقلٍ يقظ، ونبض ضمير لم يخفت بعد.
إن مغرب الغد لا يُشاد بجدران الإسمنت وحدها، بل يُقام على أسسٍ من وعيٍ حيّ، وثقافةٍ تؤمن بالإنسان لا تستهلكه، وذاكرةٍ تُضيء الطريق بدل أن تُثقله.
فلنُشعل جذوة البدء من رماد هذا الألم، ونُقيم من بين أنقاض الانحدار مشروعًا للمعنى يُقاوم الزيف، ويستعيد الكرامة.
فالخيار ما زال بأيدينا: أن نكون نُواة يقظة… لا هامشًا صامتًا في سردية السقوط العالمي.