في خضم التحولات السياسية والاجتماعية التي يعرفها المغرب، تتعمق أزمة الثقة في بعض الأحزاب التاريخية، التي شكلت في مراحل سابقة رافعة للعمل السياسي الوطني. أحزاب من قبيل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والحركة الشعبية، تعيش اليوم على وقع اهتزازات تنظيمية تكشف عن أزمة بنيوية تتجاوز الخلافات الآنية نحو خلل في الوظيفة الحزبية ذاتها.
حزب الاتحاد الاشتراكي، الذي تأسس سنة 1975 كامتداد لحركة وطنية ديمقراطية، كان في زمن مضى فضاء لاستقطاب النخب المثقفة والمدافعين عن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ولعب دورا محوريا في تشكيل الوعي السياسي لدى اجيال متعاقبة، خصوصا في مرحلة الصراع من اجل الانتقال الديمقراطي. غير ان هذا الحزب، ومنذ مطلع الألفية، بدأ يفقد بريقه ورصيده النضالي، خاصة بعد صعود ادريس لشكر الى القيادة سنة 2012، حيث برزت بوضوح مظاهر الفردانية السياسية، وتراجع العمل الجماعي، وتآكل الاليات الديمقراطية الداخلية.
التحول الذي عرفه الحزب لم يكن مجرد اختلاف في تدبير تنظيمي، بل عكس إعادة تموقع سياسي يثير جدلا داخل القواعد الحزبية نفسها. فبدل ان يواصل الحزب دوره التاريخي كقوة نقدية واقتراحية، انخرط تدريجيا في منطق التسويات التكتيكية، وهو ما جعل حضوره باهتا في المحطات الانتخابية الاخيرة، وادى الى انسحاب العديد من اطره التقليديين، مقابل بروز وجوه جديدة غالبا ما تفتقر الى الشرعية التنظيمية او التأطير السياسي العميق.
الصراعات الاخيرة التي شهدتها فروع الحزب، سواء في فاس أو الرباط أو الناظور، لم تكن تعبيرا عن تباين فكري أو جدل برامجي، بل جسدت سباقا محموما نحو التزكيات والمواقع الانتخابية، وهو ما يعكس تحولا خطيرا في طبيعة الفعل السياسي داخل الحزب. ففي الناظور مثلا، لم يكن الخلاف بين البرلماني محمد ابركان ورئيس جماعة الناظور سليمان ازواغ مجرد نزاع عابر، بل كان مؤشرا على هشاشة البنية الداخلية، وغياب التوافق التنظيمي، وتراجع ثقافة الحوار والمؤسسات.
هذا الوضع يظهر أن الاتحاد الاشتراكي يمر بمرحلة دقيقة قد تهدد وحدته التنظيمية وفعاليته السياسية اذا لم تواكبها عملية نقد ذاتي شاملة ومسؤولة، تعيد الاعتبار للمبادئ التي تأسس عليها، وتفتح المجال امام قيادات جديدة تمتلك الكفاءة والرؤية، بعيدا عن منطق الولاءات والمصالح الضيقة.
من جهته، يعيش حزب الحركة الشعبية على وقع أزمة صامتة لا تقل خطورة. الحزب، الذي ظل تاريخيا ممثلا للهوية الأمازيغية والمجالات القروية، يعاني من تصلب قيادي واحتكار للقرار داخل دائرة مغلقة. وتتحدث مصادر حزبية عن قيادي بارز في مفاوضات سرية مع أحزاب أخرى، ما أثار موجة استياء داخل المجلس الوطني وشبيبة الحزب. هذه الوضعية دفعت بعض الفاعلين الحزبيين إلى التفكير الجدي في الانشقاق وتأسيس إطار سياسي جديد ينطلق من قواعد ديمقراطية فعلية.
هذه الأزمات المتلاحقة تطرح سؤالا جوهريا: هل يتعلق الأمر بتجاذبات عابرة داخل أحزاب عريقة، أم نحن أمام أزمة هيكلية عميقة تهدد استمرارية هذه الأحزاب في المشهد السياسي المغربي؟
الواقع أن هذه الانقسامات لم تعد تقرأ فقط من زاوية الداخل الحزبي، بل أصبحت تؤثر سلبا على صورة الأحزاب لدى الرأي العام، وتسهم في تعميق العزوف السياسي، خصوصا في صفوف الشباب الذين لا يجدون في هذه الكيانات التنظيمية ما يعكس طموحاتهم أو يعبر عن أولوياتهم.
وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل توجيهات الملك محمد السادس، الذي شدد في عدة مناسبات على أهمية تجديد النخب السياسية، وتعزيز مصداقية الأحزاب عبر الارتباط الفعلي بقضايا المواطن. الخطابات الملكية، سواء بمناسبة عيد العرش أو افتتاح الدورات البرلمانية، حملت رسائل واضحة تدعو إلى الرفع من كفاءة الفاعلين السياسيين، وضمان التزامهم بخدمة الصالح العام، كما أكدت على ضرورة إعادة بناء الثقة بين المواطن والمؤسسات، عبر أداء سياسي مسؤول وفاعل يعكس انتظارات المجتمع المغربي.
وتبقى هذه الإشارات الملكية بمثابة توجيهات استراتيجية بالغة الأهمية، تستدعي تفاعلا مسؤولا من الفاعلين الحزبيين، من خلال مراجعة جادة لأساليب العمل، وتعزيز وظائف التأطير والإنصات والتواصل مع المواطنين، بما يعيد الاعتبار للعمل السياسي، بعيدا عن الحسابات الضيقة والصراعات الداخلية التي قد تضعف الثقة في المؤسسات.
وفي خضم هذا المشهد المرتبك، قد تشكل هذه الأزمات فرصة لإعادة البناء والتصحيح، إذا ما انبثقت عنها ديناميات داخلية جديدة تؤمن بالديمقراطية الداخلية، وتجدد أدوات العمل السياسي. فقد آن الأوان لظهور قيادات تؤمن بالمؤسسات لا بالأشخاص، وبالكفاءة لا بالولاء، وبالمصلحة العامة لا بالامتيازات الخاصة.
حمزة الحمداوي، أستاذ جامعي