عندما نعود بذاكرة الأحداث إلى الوراء، خاصة بدايات القرن الواحد والعشرين، ونستحضر تصرفات أمريكا وحلفائها الأطلسيين في تعاطيهم مع القضايا الدولية سواء من داخل مجلس الأمن، لما كان هذا الاخير أداة لتمرير القرارات الامريكية واضفاء الشرعية الاممية عليها في التطاول على سيادة الدول، ولاحقا لما تم شل هذه الهيئة بعد أن تعاظم نفوذ كل من روسيا والصين واقدامهما على الاستعمال المكثف لحق النقض ضد مشاريع القرارات الأمريكية. وهو ما لم يمنع أمريكا كذلك من اتخاذ قرارات أحادية تعمل من خلالها على تخريب بعض الدول وتغيير انظمة بعضها حتى وإن اقتضى ذلك تدخلا عسكريا مباشرا وذلك ضدا على القانون الدولي والميثاق المؤسس للأمم المتحدة، كما حدث في يوغسلافيا سابقا وأفغانستان والعراق ودول أخرى في أمريكا الجنوبية كبنما وليبيا وسوريا إلخ.
لكن الآن بالوقوف عند الحرب الإيرانية الإسرائيلية التي ابتدأتها هذه الأخيرة بإيعاز من أمريكا وحلفائها وذلك بعد يوم واحد من تمرير نص القرار المسيس الذي قدمته الترويكا الأوروبية والولايات المتحدة من طرف مجلس المحافظين للوكالة الدولية للطاقة الذرية. الذي اتهم إيران بالتنصل من التزاماتها مع الوكالة. وهو القرار الذي صوت لصالحه 19 عضو من أصل 35 بما فيهم المغرب. وذلك قبل يوم واحد عن بدء إسرائيل عدوانها على إيران.
وبعد انقضاء الستين يوما التي حددها دونالد ترامب لإيران للتخلي عن تخصيب اليورانيوم، وعن برنامجها البالستي. علما أن نص القرار الذي تم تمريره بأغلبية مدروسة في مجلس المحافظين للوكالة الذرية كان من المفروض أن يعرض على مجلس الأمن ليتخذ فيه ما يراه مناسبا وذلك وفق المسطرة القانونية. وليس لاتخاذه ذريعة لإطلاق اليد الإسرائيلية والأمريكية للاعتداء على دولة ذات سيادة في خرق سافر للمواثيق الدولية .
وكذلك بالنظر إلى ردة الفعل العسكرية الإيرانية التي أحدثت دمارا كبيرا بالكيان الإسرائيلي، بالشكل الذي لم يشهد له مثيل عبر تاريخ حروبه مع دول الجوار، مما دفعه للاستنجاد بأمريكا من أجل إيقاف حرب بدأها ولم يعرف كيف ينهيها. وهو ما تم من خلال الهجوم الأخير للقوات الجوفضائية الأمريكية على ثلاثة مواقع نووية إيرانية ادعى من خلالها دونالد ترامب؛ ورئيس الأركان ووزير الدفاع الأمريكي، القضاء على البرنامج النووي الإيراني. مع التأكيد على أن أمريكا لم تستهدف القوات العسكرية ولا البنيات التحتية الإيرانية. وأن أمريكا لا تسعى لتوسيع الحرب في المنطقة. وأن لإيران الان فرصة لصنع السلام والرجوع إلى طاولة المفاوضات حول البرنامج النووي!.
إلا أن هذه التصريحات الرسمية حول النجاح الباهر للضربة الأمريكية للمفاعلات النووية بعد أن وصفها المسؤولون الأمريكيون بأكبر ضربة جيوفضائية في تاريخ الحروب، تثبت من جديد عظمة أمريكا حسب فول هؤلاء المسؤولين. لم تكن كذلك مقنعة بالنسبة للكثير من المهتمين والمراقبين الدوليين، سواء بسبب الصعوبات التقنية التي تطرحها هذه المفاعلات خاصة نطنز، ومفاعل فرودو، الذي يتواجد على أعماق كبيرة تقدرها بعض التقارير بما يقارب 800 متر .اضافة إلى عدم تسرب أي اشعاع نووي من هذه المواقع، خاصة الموقع الأخير الذي كان يحتوي على حوالي 400 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%. هذا بالإضافة إلى ما تناقلته بعض وسائل الإعلام الدولية والأمريكية حول عملية نقل هذه المواد وكذا أجهزة الطرد المركزي عبر عشرات الشاحنات أياما قليلة قبل الضربة. بما يوحي أن هذه العملية كانت إيران على علمت بها من طرف شركائها وأخص بالذكر روسيا التي تم إخطارها عن الضربة من طرف أمريكا. وهو ما كان قد اقدمت عليه روسيا كذلك حين اشعرت أمريكا بضرب أوكرانيا بصاروخ اوريشنيك.
كما أن الكثير من التحليلات ذهبت إلى اعتبار الضربة الأمريكية، ومن خلال تصريحات مسؤوليها عن عدم نية أمريكا توسيع الحرب وعدم استهدافها لباقي القدرات العسكرية والاقتصادية الإيرانية، وتأكيده على الحوار من أجل السلام هي محاولة لرد الاعتبار للقيادة السياسية الأمريكية الحالية، التي لم تقدر عواقب الضوء الاخضر الذي أعطته لإسرائيل للهجوم على إيران. خاصة بعد ردة الفعل الإيرانية عبر موجات من الهجمات الصاروخية التي أحدثت دمارا كبيرا بالكيان. إضافة الى ارضاء اسرائيل من خلال القول أن التهديد النووي الإيراني لم يعد قائما. وأن الوقت قد حان لوقف الحرب والعودة إلى طاولة المفاوضات والحلول الدبلوماسية. وهو ما قابله بشكل متماثل حين نستحضر كذلك الضربة الصاروخية الإيرانية لقاعدة العديد الامريكية في قطر، كرد فعل على الضربة الأمريكية، وذلك مباشرة بعد زيارة وزير الخارجية الإيراني عراقجي لموسكو، ولقائه الرئيس الروسي بوتين في جلسة مغلقة أكدت من خلاله روسيا استعدادها لتقديم كل ما تطلبه إيران من مساعدات. وكذلك بعد اخطار الولايات المتحدة بها مما سمح لها بأخذ احتياطاتها وإخلاء جنودها من هذه القواعد. ودون أن يطال هذا التصعيد إغلاق مضيق هرمز الذي سيتأثر به الاقتصاد العالمي واقتصاديات كل دولة المنطقة .كل هذه التطورات المتلاحقة جاءت قبل وقت قصير من إعلان ترامب وقف إطلاق النار بموافقة كل من إيران والكيان الإسرائيلي.
لكن ما هو أهم من كل هذا، خاصة بعد تحليل كل هذه المعطيات والوقائع والتصريحات، هو أن أمريكا ولأول مرة في تاريخها بعد انهيار جدار برلين، تجد نفسها غير قادرة على حشد تحالفاتها العسكرية السابقة لاستهداف دولة تعتبرها مارقة، وتكن لها عداء يمتد لمرحلة الثورة الإسلامية حين تم احتلال السفارة الأمريكية في طهران. وذلك نظرا للتوتر الذي تشهده علاقاتها بشركائها الأطلسيين حول أكثر من ملف. سواء في ملف الحرب الروسية الأوكرانية، أو في حلف الناتو، أو الرسوم الجمركية التي أقرتها أمريكا على الدول الأوروبية.
كما أنها تجد نفسها ولأول مرة متحفظة على الدخول في خرب شاملة مع دولة تعتبرها من الذ أعدائها في منطقة الشرق الأوسط، ولطالما تمنت تغيير النظام السياسي فيها وذلك خلافا لما دأبت عليه في العقود الماضية. حين كانت تستعمل القوة المفرطة سواء باشراك حلقاتها، أو بشكل انفرادي، في الإطاحة بمن تعتبرهم يشكلون تهديدا لمصالحها ومصالح الكيان الاسرائيلي في المنطقة.
إن هذا التحول العملي، ولن اقول في الحطاب بالنسبة للقيادة السياسية الأمريكية. سواء في ملف الحرب الروسية الأوكرانية، أو في الحرب الإسرائيلية الإيرانية، أوفي ما يخص حرب الرسوم الجمركية مع الصين. كلها تحولات تعكس بما لا يدع مجالا للشك، أن الصراع الجيواستراتيجي الذي تقوده كل من روسيا والصين في مواجهة الغرب الأطلسي وذلك من احل ارساء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب عبر خلق تحالفات جديدة إن على المستوى الاقتصادي والعسكري الذي بدأ يأخذ أبعادا كبرى، خاصة بين كل من روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران والصين وربما دول أخرى. هو ما سيعمل على إرساء قواعد اشتباك جديدة ليس فقط على المستوى الدولي. بل كذلك على المستوى الإقليمي وبالخصوص في منطقة كانت تعد مجال نفوذ حصري للولايات المتحدة الأمريكية.
وما وقف إطلاق النار الذي تم التوافق عليه بين مختلف الأطراف في هذه المنطقة برعاية أمريكية روسية، إلا مقدمة تدل على أن نهاية سنة 2025 ستشكل البداية لحوار استراتيجي بين القوى العالمية من أجل صياغة نظام عالمي جديد. نظام يراعي المصالح المشتركة للقوى النافذة فيه وشركائهم. ويبقى على دول الجنوب ان تستشرف من الان مستقبل علاقاتها الدولية من خلال تحديد موقعها وشراكاتها المستقبلية التي تضمن لها مصالحها الوطنية في التنمية والتقدم والسيادة.