لا يُجادل أحد في كون الدولة العبرية تستمدّ قوّتها الاعتبارية ووزنها العسكري، لا من تفوّقها في مجال التجهيز الحربي والدعم التكتيكي واللوجستي الغربي، والأمريكي خاصة، وإنما من استمرار توازن الرعب في المنطقة لصالح إسرائيل تحديدًا، دون غيرها في منطقة "الشرق الأوسط"، التي كان القوميون العرب يسمّونها في أدبياتهم الراقصة "الشرق العربي"، لأن إسرائيل وحدها، دون سواها، تمتلك السلاح النووي، ومن ثمّ فهي شرطيّ المنطقة بلا منازع!!
غير أن الأهم في هذا المعطى الميداني، الواقعي والملموس، والمُدرَك بكل الحواس، أن إسرائيل ترفض، حتى في الأحلام والرؤى، وجود أيّ سلاح نووي في أيّ بلد آخر في المنطقة، ولذلك ظلّت طوال عقود تهدّد بشنّ هجمات كاسحة على أيّ مفاعلات نووية يُشتبه في نوايا مستخدميها بالمنطقة!!
والحال أنها بالفعل سبق لها أن نفّذت أحد تلك التهديدات ضدّ العراق تحديدًا، في الربع الأخير من القرن الماضي، وتحديدًا بتاريخ 7 يونيو 1981، مستهدفةً مفاعلًا نوويًا عراقيًا على بُعد سبعة عشر كيلومترًا جنوب شرق بغداد، فيما سُمّيت آنذاك بعملية "أوبرا"، أو "بابل"، وهما تسميتان صائبتان. وقد وقع ذلك أمام أنظار عالم يكاد يؤمن بالكامل، وخاصة العرب، بأن لإسرائيل كامل الحق في الدفاع عن وجودها، باستباق وتوقّع إقامة أيّ مفاعل نووي مشكوك في أهدافه وغاياته، لا سيما من طرف أنظمة تدّعي الثورية، ومعروفة بتمرّدها على أجهزة الرقابة الدولية على إنتاج أسلحة الدمار الشامل، وعلى رأسها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي عهد إليها المجتمع الدولي بمهمة تتبّع ومراقبة الاستخدام المدني والسلمي للطاقة النووية...
في السياق ذاته، هدّدت إسرائيل مرارًا وتكرارًا بتنفيذ هجمات مماثلة على المفاعلات النووية الإيرانية، لعلمها، الذي يُرقى لديها إلى مرتبة اليقين، بأن نظام الملالي الإيراني يسعى جاهدًا للحصول على سلاحه النووي الأول، وهو النظام الذي يُعلن على رؤوس الأشهاد، منذ ثورة آية الله الخميني، عداءه التاريخي للولايات المتحدة الأمريكية، التي يصفها بـ"الشيطان الأكبر"، ولإسرائيل، "الشيطان الأصغر"، والتي يدّعي الإخلاص في مقاومتها ومناهضة وجودها في المنطقة، لا حبًا في فلسطين العربية، وهذا يعلمه كل العرب، بل لأن إسرائيل تُشكّل حاجزًا يصعب، بل يستحيل، تجاوزه في طريق تحقيق الحلم الفارسي المعروف، الهادف إلى بعث الإمبراطورية الفارسية العظمى، الباسطة أذرعها من شرق المتوسط العربي إلى غربه... في غياب الدولة العبرية!!
والواقع أن العالم برمّته يعلم أن إيران لا تحلم بطرد إسرائيل مما يسمّيه خمينيو إيران "أرض كنعان"، بل لتضع يدها بالكامل على تلك الأرض، دون أن يكون الشعب الفلسطيني، بأيّ شكل من الأشكال، جزءًا من انشغالات الملالي وخامنئي وأجيالهم، سواء السابقة أو اللاحقة!!
وعلى صلة وثيقة بما يجري حاليًا، برًّا وجوًّا وبحرًا، بين إسرائيل وإيران، وبالنظر إلى تداعيات هذه المواجهة، التي دفعت بعض الدول إلى إبداء استعدادها لدعم هذا الطرف أو ذاك، وبغض النظر عن القوة التي اتّسم بها الرد الإيراني العسكري، والذي أحدث، ويُحدِث، هو الآخر أضرارًا فادحة بالبُنى التحتية الإسرائيلية، وبالاقتصاد الإسرائيلي، وبالشعب الإسرائيلي تحديدًا، فإن الانشغال السائد راهنًا على الصعيد العالمي هو احتمال أن تشهد المنطقة، بطولها وعرضها، وكذلك المناطق المحيطة بها، بل وحتى البعيدة نسبيًا، كارثةً شبيهة بما حدث في "تشيرنوبيل" سنة 1986، عندما وقعت تسرّبات إشعاعية ألحقت بمنطقة أوروبا الشرقية أضرارًا لا تزال آثارها قائمة إلى يومنا هذا!!
لكنّ الظاهر، إلى حدّ كتابة هذه السطور، أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي تتابع عن كثب آثار الهجمات الإسرائيلية، وردود الفعل الإيرانية التي استهدفت بدورها أهدافًا حساسة قد يكون من بينها ما هو نووي، لم تُطلق إلى الآن أيّ صفّارة إنذار حقيقية وجدية، بل أكّدت أنها لم تسجّل أيّ ارتفاع في منسوب الإشعاعات النووية في مناطق المواجهة بين الدولتين!!
غير أن هذا لا يبعث على الاطمئنان إطلاقًا، ما دامت الضربات الإسرائيلية متواصلة باتجاه مراكز البحث الذري والمفاعلات النووية الإيرانية من جهة، وما دام الرد الإيراني العسكري يزداد حدّة من جهة أخرى، خاصة وأن الإيرانيين بدأوا يُلوّحون باستعدادهم لضرب المفاعلات الإسرائيلية، وهو التهديد الذي من المؤكد أنه سيقود العالم إلى حرب كونية ثالثة وكارثية، ظلّ الجميع يتجنّب إشعال فتيلها في أكثر من بؤرة صراع مشتعلة، ليست أبعدها الحرب الروسية الأوكرانية التي لم ينطفئ أوارُها بعد!!
العالم اليوم ينام ويستيقظ على كفّ عفريت، ولا أحد يستطيع التنبّؤ بما قد يستجدّ في الدقائق القليلة المقبلة، التي تحوّلت، حتمًا قبل إتمام هذه السطور، إلى لحظاتٍ من الماضي... والعِبرة، حتمًا، بالآتي!!
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي متقاعد