في لحظةٍ مفصلية تعيد فيها الجزائر رسم معالم جمهوريتها الجديدة، تُطرح أسئلة جوهرية عن مركز القرار الرئاسي، ليس من باب الفضول السياسي، بل من منطلق الحق في الرقابة والمساءلة. فبينما يُروّج رسميًا لإصلاحات هيكلية تُبشّر بعهد جديد، يبدو أن هناك منطقة رمادية داخل "المرادية" نفسها، لم تمسها ريح التغيير، بل تحصّنت خلف خطاب السيادة والخصوصية المؤسسية: إنها دائرة المستشارين الرئاسيين.
قد يُفترض أن المستشارين في أي نظام سياسي هم أدوات دعم ومساعدة للرئيس، يقدمون الرأي ولا يصنعون القرار، يُكلَّفون ولا يتسيّدون. لكن ما يحدث اليوم في الجزائر يُنبئ بعكس ذلك. فأسماء مثل بوعلام بوعلام أو بومدين بن عتو لم تعد مجرد ظلال لرئاسة قوية، بل تحوّلت إلى أعمدة صلبة تتحكم في مسارات القرارات اليومية، بتأثير يتجاوز صلاحياتهم الدستورية وغير محصّن بشرعية انتخابية أو مساءلة شعبية.
لنأخذ مثلاً بوعلام بوعلام، المستشار الأول ومدير الديوان، الذي بات يُنظر إليه باعتباره "الرجل الثاني الفعلي" في البلاد. من مستشار قانوني إلى مهندس خفي لتشريعات وقرارات سيادية، تتجاوز صلاحياته ما يجب أن يُسند للرئيس نفسه. أما بومدين بن عتو، المكلف بالأمن والدفاع، فتحوّله إلى مرجعية أمنية داخل مؤسسة مدنية يطرح تساؤلات مقلقة عن مدى تغلغل المقاربة الأمنية في الشأن السياسي، بما يعيد إلى الأذهان منطق "الحكم عبر الأجهزة" الذي ظن كثيرون أننا تجاوزناه بعد 2019.
لكن الصورة لا تقف عند حد النفوذ، بل تتعداه إلى الغموض التام في المهام، في طرق التعيين، في الأداء، وحتى في الذمة المالية. ما من تقارير دورية، ولا إعلان عن المصالح، ولا حتى مجرد محاولة لتقييم أدائهم على أساس الكفاءة أو النتائج. بل على العكس، يحيط الكثير من مستشاري الرئيس شبهات تضارب المصالح، وارتباطات مشبوهة بقضايا فساد مالي دولي، خصوصًا فيما يتعلّق بامتلاك ممتلكات غير معلنة في فرنسا، دون أن نسمع عن أي فتح لتحقيق علني واحد في هذا الشأن.
فهل هذا هو شكل "الجزائر الجديدة" التي يُفترض أنها قائمة على الشفافية والمساءلة؟
وهل يجوز أن يتحوّل المستشار إلى عازل بين الرئيس وشعبه، حارسًا لمصالحه الشخصية بدلًا من أن يكون ناقلًا صادقًا لانشغالات المواطنين؟
الواقع أن كثيرًا من الجزائريين باتوا يشعرون أن صوتهم لا يصل إلى الرئيس، ليس لأنه لا يريد أن يسمع، بل لأن "المرشّحات البشرية" حوله تمارس دورًا مزدوجًا: تعقيم الواقع من الألم، وتجميل الوضع من التحديات، وكأن المطلوب هو صناعة صورة لا تصحيح واقع.
وما يزيد من قسوة المفارقة، أن معظم هذه الوجوه ليست جديدة على الحياة العامة. بل الكثير منهم جزء من نظام البيروقراطية القديمة، أو أتوا من خلفيات أمنية لم تعتد على الانفتاح أو الحوار مع المجتمع المدني. كيف ننتظر منهم أن يكونوا "قادة تحول" وهم من بُناة الجمود؟
من أجل جزائر جديدة فعلًا... فلنبدأ من "قلب السلطة"
إن الخطوة الجريئة نحو إصلاح حقيقي تبدأ من تنقية ديوان الرئاسة ذاته. ولا مجال لمهادنة هذه الدائرة الحساسة، فبقاءها دون مراقبة هو ثغرة حقيقية في مشروع بناء دولة القانون.
على الرئيس تبون أن يُعيد النظر في هيكل مستشاريه من خلال:
-فتح تحقيقات داخلية وخارجية حول ذممهم المالية.
-إعلان تقارير دورية عن نشاطاتهم للرأي العام.
-تطبيق مبدأ تقييم الأداء بشكل مؤسساتي شفاف.
-إعفاء كل من ثبت فشله أو استفادته غير القانونية من المنصب.
-الانفتاح على الكفاءات من الجامعات، المجتمع المدني، والقضاء المستقل.
-الخلاصة:
"الجزائر الجديدة" لن تُبنى بشعارات، بل بتفكيك البنى القديمة داخل القصر أولًا. وإذا كانت النية صادقة، فالمعركة ليست فقط ضد الفساد في المؤسسات الدنيا، بل أيضًا في دوائر القرار العليا. فكما لا نُحاسب الحلقات الضعيفة فقط، لا بد أن ننظر فيمن يُمسكون بمفاتيح الدولة من خلف الستار.
المرادية ليست محصّنة ضد النقد، بل هي أولى به.
عبد الكريم مولاي، خبير أمني جزائري - لندن