Monday 16 June 2025
كتاب الرأي

عبد السلام بنعبد العالي: هل من معنى للكذب في عالم سوء التفاهم؟

عبد السلام بنعبد العالي: هل من معنى للكذب في عالم سوء التفاهم؟ عبد السلام بنعبد العالي
من تزوير الحقيقة إلى تفكيك أواصر المعنى
 

التكنولوجيا الحديثة، خلافا للظاهر، وعلى الرغم من كونها علمية، تزيد قوة الأشباح. المستقبل للأشباح"

- جاك دريدا وبرنار ستيغلر، "فحص إيكوغرافي للتلفزيون".

إذا سلمنا بأن التواصل البشري مؤسس منذ البدء على الالتباس وعدم التماثل في الفهم، وبأننا لا نجد أنفسنا، منذ البداية، أمام حالات فردية من سوء الطوية (mauvaise foi)، وإنما أمام بنية تجعل التواصل، مبدئيا، مشبعا بسوء النية، لا باعتباره حيلة مقصودة، بل لأنه يولد دوما أثرا غير مقصود، فإننا نجد أنفسنا أمام أسئلة أساسية: إذا كان الإنسان مدانا بسوء الفهم، وبكذب ضمني ناتج من محدودية اللغة وتشظي المعنى، فهل يبقى هناك معنى للتمييز بين الصدق والكذب؟

إذ ما معنى الكذب في عالم لا يفترض فيه أن "الصدق" ذاته ممكن أو مستقر؟ إذا كنا لا نقول أبدا "ما نعنيه تماما"، ولا يفهمنا الآخر "كما نقصده تماما"، فهل الكذب هو مجرد محاولة إضافية لتوجيه سوء الفهم لصالحنا؟ وإذا كانت اللغة نفسها غير موثوق بها، فهل يصبح الكذب محاولة لإعادة تنظيم فوضى التواصل، أو نوعا من التحكم في ما لا يمكن التحكم فيه؟ وحينئذ يصبح الكذب فعلا مندرجا ضمن بنية المعنى ذاتها، حيث لا ينفصل الصدق عن التمثيل، ولا الحقيقة عن التأويل، ولا يعود الكذب "حجبا" للحقيقة، بل مناورة داخل لعبة توليد المعاني.

آليات الدلالة

معنى ذلك أن هذه المناورة ستفترض أن الخداع ليس نية ذاتية للكذب، وإنما هو ناتج من آليات الدلالة ذاتها. ذلك أن العلامات، في عالم يسوده سوء التفاهم، لا تحيل إلى "وقائع" مستقرة، بل تدور في حلقة تأويل لا تنتهي، ولذلك يصبح المعنى هشا، وعرضة لإعادة التشكيل والتلاعب. ونتيجة ذلك يصبح الخداع آليا، بنيويا، من صميم اللعبة السيميولوجية نفسها، وهو ما يجعل محاولة مساءلته أخلاقيا تبدو عاجزة، لأن الفاعل نفسه مغيب داخل شبكة من العلامات والانزلاقات التأويلية، ولأن الخداع يتولد بعيدا منه وخارج تحكمه.

يحكي فرويد حكاية اليهوديين اللذين التقيا في قطار، فسأل أحدهما الآخر عن البلدة التي يتوجه نحوها. أجاب الثاني: "أنا متجه إلى كراكوفيا". رد الأول متعجبا: "يا لك من كذاب، إذا كنت تقول إنك ذاهب إلى كراكوفيا، فلأنك تريد أن أعتقد أنك ذاهب إلى لومبيرغ، لكن أنا أعرف أنك ذاهب حقا إلى كراكوفيا". ما يمكن أن نستخلصه من هذه الحكاية التي يرويها مؤسس التحليل النفسي، هو أن المسألة قد لا تتعلق بسوء نية مبيتة عند الكاذب. ذلك أن سوء التفاهم والشعور بنية الخداع والكذب، ربما يتولدان من غير سوء نية. وفرويد يؤكد أن المسافر الأول كان بالفعل متوجها إلى كراكوفيا، ولم يكن قط سيء النية.

ربما تعيننا على تبين مغزى هذه الحكاية، فكرة عميقة يستلهمها دريدا من مقال كتبه ألكسندر كوييري تحت عنوان "الوظيفة السياسية للكذب الخاص بعصرنا الراهن"، يطلق عليها الانحراف–المفارقة: وهي، كما يصفها كوييري، "تقنية ميكيافيلية بامتياز"، "وفن كان هتلر يتقنه على مستوى عال، وذلك بقوله الحقيقة مع علمه أن لا أحد من بين الجاهلين بالرموز المستعملة سيحمل أقواله محمل الجد، أي أن الأمر يتعلق بنوع من "التآمر في واضحة النهار"، والذي كثيرا ما اعتبرته حنة آرندت بمثابة الصورة المجسدة للكذب الخاص بعصرنا الحالي، ويمكن تحديده كالتالي: النطق بالحقيقة بهدف خداع أولئك الذين يعتقدون بأنه ليس عليهم تصديقها". هنا لا يغدو الكذب حجبا للحقيقة، واستخداما واعيا واستراتيجيا للحقيقة من أجل الخداع، وهي مفارقة، كما أشار كوييري ودريدا، بل شكل معقد من "الانحراف" الذي لا يخدع بقدر ما يحرج، لأنه يمارس في واضحة النهار، وفي الفضاء العمومي، وهذا ما يجعل هذه التقنية "ميكيافيلية بامتياز": إنها لا تخطط للإقناع، بل لتقويض الإيمان بالحقيقة ذاتها. فنحن لم نعد نعيش في زمن تحجب فيه الحقيقة، بل في زمن تخرب فيه الثقة في كل ما يقال، ويحرم فيه الناس من قدرتهم على التصديق. بعبارة أخرى، فإن الكذب لم يعد اختلاقا، بل تعطيل للحقيقة، وإفراغها من معناها التداولي، ومن قدرتها على التأثير والفعل.

مغزى هذه التقنية هو أن التقابل لم يعد قائما بين "كذب" و"صدق"، بل بين "قول" و"تصديق"، فالكذب هنا يتحول إلى تواطؤ ضمني بين المتكلم والجمهور على أن الحقيقة، إن قيلت، لا تحمل محمل الجد. هذا النوع من الكذب ليس مجرد خداع، بل تحقير للتواصل نفسه، لأنه يضع المتلقي في موضع اللامبالاة أو السخرية، ويغرقه في عتمة الشك الدائم.

تفتيت الحدث

كانت حنة آرندت قد بدأت باتهام الأنظمة التوتاليتارية بأنها هي التي تزور الحقيقة، وتشوه المحتوى الواقعي وتقدم صورة بديلة منه. لكنها تبينت أن هذا ليس إلا مجرد وجه أولي لإتلاف الحقيقة، أما وجهه الجديد في مجتمعاتنا المعاصرة، فهو أكثر خفوتا و"ديمقراطية"، حيث لا يقضى على الواقع عبر تزوير وثائقه، بل عبر تفتيت الحدث إلى وقائع جزئية تذيب معناه. ففي عالم سوء التفاهم، لا يحتاج الكذب إلى أن "يصنع صورة زائفة" للواقع، لأنه يفتت الواقع إلى شتات لا يمكن أن يركب في سردية ذات معنى. وهذا بالضبط هو التحول النوعي في طبيعة الكذب: من تزوير الحقيقة إلى تفكيك أواصر المعنى، ومن الكذب على الواقع إلى تشتيت دلالاته.

هذا ما يتجلى في وسائل الإعلام "الحديثة"، التي لا تنقل "الحدث"، بل تجزئه إلى راهنية مستمرة، وأحداث متلاحقة بلا سياق ولا عمق. هذا النوع من الكذب ليس مؤامرة من أحد، بل بنية تشتغل بصمت وبصورة جماعية، تتغذى على فائض المعلومات، لا على نقصها. فهو ليس قمعا، بل إغراق في اللامعنى والوقائع المعزولة، حتى لا يبقى للحدث معنى يحمل أحدا مسؤولية، أو يفتح أفقا للفهم أو الفعل.

هذا الشكل الذي بات الكذب يتخذه في حاضرنا جعله يتجاوز نطاق الفرد والأخلاق، ليطال الجماعة والسياسة، ويعلق بالتاريخ نفسه. فالكذب السياسي، كما لاحظت حنة آرندت، لم يعد "تسترا يحجب الحقيقة"، بل أصبح قضاء مبرما على الواقع، وإتلافا فعليا لوثائقه ومستنداته الأصلية. لم يعد الكذب إخفاء للحقيقة، بل تفكيك لها من الداخل، لم يعد مجرد مكر تاريخي، بل مكر بالتاريخ نفسه، حيث يسلب الماضي من معناه، ويعاد ترتيبه وفق منطق القوة لا الذاكرة.

الكذب السياسي

لا يخفى اليوم الدور الحاسم الذي أصبحت تلعبه وسائل الإعلام في حفظ الحقيقة وإتلافها في آن واحد، وفي إنتاج ما يمكن أن نسميه بـ"الكذب السياسي" بمعناه المعاصر. وقد أشار جاك دريدا إلى أن وسائل الإعلام -من حيث إنها الموضع الذي ينتج فيه الخطاب العمومي وتودع فيه أرشيفاته -أصبحت جزءا لا ينفصل عن تحليل الكذب وكل أشكال التزوير التي تطبع فضاء الشأن العام.

لكن دريدا لا يتوقف عند هذا الحد، بل يعمق النظر، مستأنسا بآرندت، في تحول بنية الإعلام ذاتها، وليس فقط في تطور وسائطه التقنية. إذ يشير إلى أن هذه البنية الجديدة-القائمة على طغيان الصورة والبديل الأيقوني وهيمنة الإيقاع اللحظي-غيرت شكل الفضاء العمومي، بل وأعادت تشكيل شروط الفهم والتصديق ذاتها. من هنا نفهم كيف أصبحت الدعاية، الرسمية وغير الرسمية، قادرة على تلوين الأحداث التاريخية بحسب الظرفية، والحاجة، و"المزاج العام". فالكذب الذي كان إلى وقت قريب محصورا في القنوات الديبلوماسية، يمارس بجرعة محسوبة من السرية والخداع، أضحى اليوم يمارس في العلن، أمام الجميع، وفي شأن وقائع لم تعد حقيقتها خافية على أحد.

تتويجا لدور وسائل الإعلام في بنية الكذب السياسي المعاصر، لا يمكن التغاضي عن الدور المركزي للصورة، بوصفها الوسيط الأبرز في تشكيل الإدراك العام، وتثبيت الكذب في هيئة "صدق مرئي".

في هذا السياق، يؤكد جاك دريدا، مع حنة آرندت، أن الصورة -بما تمتلكه من قوة الإيهام -أصبحت أداة رئيسة لإضفاء طابع "المصداقية" على عمليات الكذب. تقول آرندت: "الصورة هي الكلمة المفتاح أو المفهوم الأساس لكل التحليلات المتعلقة بالكذب السياسي كما يمارس في عصرنا الحالي (صور مصطنعة، صور كاذبة، صور دعائية)".

غير أن دريدا يذهب أبعد من ذلك منبها إلى التحول الأعمق الذي مس وظيفة الصورة التي لم تعد مجرد تمثيل أو إحالة على الواقع، بل أصبحت "الشيء نفسه"، تحل محله وتنقضه في الآن ذاته. إنها لم تعد تظهر لتكذب، بل لتغني عن الأصل، وتلغي الحاجة إليه. لقد أدت التحولات التقنية إلى أن تغدو الصورة هي الواقع الوحيد الممكن، فهي "الحدث" و"أثره" في وقت واحد، وهي الأرشيف الوحيد الذي يحفظ الحدث، والحدث المحفوظ نفسه. هكذا يصبح الكذب، في صيغته الجديدة، ممارسة لا تكتفي بتزييف الواقع، بل تحل محله، بإتقان تقني، وبموافقة المتلقي نفسه، الذي لم يعد يبحث عن الحقيقة، بل عن قابلية التصديق البصري.

ضمن المابعديات التي أصبحت رائجة اليوم، يمكننا أن نتحدث عن "عصر ما بعد الحقيقة"، شريطة ألا نفهم من ذلك أن الحقيقة اختفت، وإنما كونها فقدت ضرورتها وغدت لا لزوم لها. فنحن لم نعد نكذب لأننا نخفي، بل لأننا نغرق الحقيقة في فائض من الظهور، ونتركها تتآكل من الداخل حتى تكاد تبدو غير ضرورية. لم يعد الكذب فعلا يعارض الحقيقة، بل ممارسة رمزية تستند إلى سلطة الصورة، وسرعة الخبر، وتكتيك التمثيل. في هذا المناخ، لم يعد مطلوبا من المواطن أن يفكر أو يتأمل، بل فقط أن يشاهد، وأن يستهلك ويصدق، لا ما يقال فحسب، بل خصوصا ما يعرض عليه من صور، ومقاطع، ومشاهد و"أشباح".

 

عن مجلة " المجلة "