Friday 13 June 2025
كتاب الرأي

عبد القادر رجاء: أسئلة الكتابة والتواصل والسلطة ولعب الأدوار في مسرحية " فاوست لن يتوب" للكاتب عصام صابر

عبد القادر رجاء: أسئلة الكتابة والتواصل والسلطة ولعب الأدوار في مسرحية " فاوست لن يتوب" للكاتب عصام صابر عبد القادر رجاء

إن في استحضار  المقولة التالية : " الدنيا مسرح كبير والنساء والرجال ما هم إلا  ممثلون." لقائلها وليام شكسبير أحد رواد المسرح الحديث، إثارة لجملة ذات أهمية بالغة من الوهلة الأولى لسماعها.  وبالتمعن في بنيتها نستشف المدلول والغايات والماهية منها؛ كما تتيح المجال لاكتشاف حقيقة كون أدوارنا  الحالية والماضية واللاحقة لا تعدو أن تشكل بالملموس إلا أداء  لأدوارنا على مسرح الحياة على اختلاف أجناسنا  وجغرافياتنا الثقافية والطبيعية.

 

فالحديث عن المسرح حديث بالأساس عن اداة تواصل وقناة للمشاعر والأفكار والأحاسيس الأساسية، من كلام وحركة وإيماء وإشارة وإنارة وإثارة وصوت وموسيقى وسينوغرافيا وتأثيت لفضاء اللعب.

 

كما أن المسرح مظهر حضاري برتبط بتقدم الأمم ورقيها، وليس وسيلة ترفيه أو متعة، بقدر ما هو اداة تنوير ووسيط هام لنقل الفكر وبث الوعي والنهضة الاجتماعية والسياسية والفكرية كما يعكس ذلك قول الباحث عيسى الشماس في كتابه الإعلام بين الثقافة والتربية.

 

ولعل هذه التوطئة تليق بمقام العمل المسرحي  المسمى  "فاوست لن يتوب" لكاتبه الأستاذ عصام صابر؛ الذي يطالعنا بنص مسرحي مسكون بالدور والأدوار وبأسئلة عريضة عن الكتابة والسلطة وغيرها من مفاهيم الحياة.

 

الكتاب من الحجم المتوسط يقع  في 92 صفحة؛ وهو عبارة عن نص أدبي صنفه كاتبه ضمن جنس المسرح، كما هو مكتوب فوق اسم النص " فاوست لن يتوب" المتضمن أعلى واجهة الغلاف. والكتاب صادر عن دار مملكة السعادة للنشر والانتاج الفني بمصر.

 

يتمثل الحدث في خروج سفينة مسماة "الأمل" وهي تقل طاقم ملاحة بحرية فتي تخرج لتوه من المعهد العالي للملاحة، والسفينة متجهة نحو الضفة الغربية من المحيط، والهدف من الرحلة هو تعلم الملاحة المعاصرة واستطلاع خبايا البحر.

 

إن المكان الخاص يتجسد في السفينة؛ كما تشير إلى ذلك الأحداث المسترسلة، وكذا الإشارات الركحية التي تتصدر المشهد الأول  ويحمل كعنوان " لكل منا وجهة". أما المكان العام فهو البحر طبعا بما يمثل من شساعة وترام وامتداد.

 

ويمكن التمييز على مستوى الفضاءات بين فضاء ركحي تعكسه الإشارات الرحكية المصاحبة للنص  المسرحي، وكذا فضاء اللعب وهو الفضاء الواقعي للأحداث. وفي حال " فاوست لن يتوب" فهذا الفضاء تجسده السفينة بما تشكله من التصاق وامتداد وعبور لعالم مكاني اخر هو البحر.

 

ومن جهة أخرى، فالفضاء الدرامي يمكن أن نعتبره ثالث فضاء من فضاءات المسرحية؛ فهو غير واقعي وغير مرئي، ويفهم من تسلسل الأحداث ونشوء الصراعات والأزمات وبروز عقدة النص المسرحي؛ وكذلك من خلال  العوالم النفسية للشخوص وسيكولوجية الكاتب وروابط التشابه والتوازي بين الفاعلين في العمل الأدبي موضوع هذه الكلمة.

 

المسرحية مسكونة زمنيا بالظلام؛ فهي تنطلق كرونولوجيا بالليل وتنتهي بالليل، ولا يتجاوز  زمن المسرحية  الرحلي الليل نفسه. وهذا يبقى في فهمنا ذا ارتباط بطبيعة الحبكة الدرامية التي تتسم طبيعيا بالتتابع المتسلسل في البداية للأحداث قبل أن يعلو على سطحها تجليات مؤامرة وانقلاب أدوار وكيد. ولعل اختيار رقم 9 في بناء تسلسل المشاهد وتيمة التوبة في العنوان، يبقى بمدلولات مهمة مرتبطة بقصة المكر للنبي يوسف، التي تذكرها التجربة الإنسانية في نصوصها الدينية وإنتاجها السينمائي.

 

وبالعودة للزمن الدرامي، يمكن القول بأن مسرحية فاوست لن يتوب لا تتجاوز الليلة الواحدة، وهي بذلك محدودة من حيث زمن الإبحار والكيد وانقلاب الدوار. أما زمن العرض فلا يعدو أن ينحصر في نفس رؤية واختيار الزمن الدرامي عينه؛ إذ ينفتح على الإظلام وينغلق على نفس الإظلام. هذا مع ضرورة الإشارة إلى ظهور زمن اخر مواز نسميه في هذه الورقة بالزمن  النوستالجي المتعلق بتاريخ تخرج الربانان 1980 وبصور التخرج، وارتباط ذلك بالإيمان بفكر المغامرة واكتشاف الضفة الغربية من المحيط، واستكشاف حضارات المعرفة والفكر والثقافة والملاحة المعاصرة.

 

 تتميز المسرحية بقلة شخوصها لكونها لا تتجاوز الأربعة، وهم يتوزعون على النحو الذي نبسطه على الشكل التالي :

  • محمود الربان الثاني  
  • سليم مساعد  محمود 
  • قاسم الربان الأول
  • عائد مساعد قاسم

يتسم الشخوص بصفات متعددة تجمع بين الاجتماع والتفرقة والتمرد والخداع، تجمعهم سفينة وتفرقهم مطامع مضمرة. فقاسم هو ربان وقائد السفينة الأول، رجل مسالم يحب العلم والمعرفة والملاحة المعاصرة. أما عائد فهو مساعد قاسم وامتدادا له فهو متامل ومفكر ومكتشف ويحمل مذكرة للكتابة والتفكر، ولا يحب الاستبداد والطغيان كما هو حال قائده قاسم.

وبخصوص شخصية محمود؛ فهو الربان الثاني لسفينة الأمل، وهو شخص مستبد وصعب المراس. من صفاته أيضا سلاطة اللسان ويحب استهلاك الكحول ويدخن الغليون، وهو رجل ماكر يخفي انتهازية وتسلط على باقي طاقم السفينة. محمود لا يؤمن بالأفكار وبالحضارة ويدعي الفحولة وطائش في أفعاله. وسليم يجسد بدوره امتدادا لشخصية محمود وتقدمه المسرحية كمغفل وتابع وخاضع لتوجيهات محمود المتجبر والمتسلط.

وبالخوض في الاختيارات الرمزية على مستوى الشخصيات في علاقة بالدلالات والادوار التي تجسدها، فيمكننا القول بأن اختيار الأسماء فيه معان معينة؛ ذلك أن قاسم يعكس تقاسيم فكر متحضر ومقسم على كتاب الإيمان  بالأفكار الديمقراطية وبثقافات الاستكشاف والتقدم والرقي ومناهضة فكر الجبابرة والطغاة، ويتقاسم مع مساعده بعضا مما أقسم عليه. أما اسم عائد فهو من فعل العود والإعادة في الفكرة والتأمل وتجديد الفكرة والتعلم، وعودة بالجديد وإعادة لسفر تعلمي على ظهر سفينة.

 

محمود شخص وجد ليطاع ولتكون فكرته محمودة وقراره للتنفيذ وليس للمناقشة، وسليم من التسليم والخضوع إزاء توجيهات محمود القائد الثاني للسفينة.

 

وبالنظر لصفات وعلاقات التداخل بين شخصيات مسرحية فاوست لن يتوب لكاتبها الأستاذ عصام صابر، فإن الصراع الذي يحكم تمفصلاتها فيه ماهو داخل وخارجي؛ حيث أن الجانب الخارجي فيه مرتبط بالأحداث التي تدور على مستوى فضاء لعب المسرحية؛ كما أن الصراع الخارجي يبقى رديفا بالغاية من الرحلة والهدف الخفي منها، وكذا المؤامرة المدسوسة في تخطيط محمود ولعبة تبادل الأدوار والقيادة البديلة والثورية للسفينة.

 

أما الصراع الداخلي فهو نفسي بالأساس، وتحكمه حزمة من عقد التمثلاث التي يرسمها الأشخاص حولهم وفيما بينهم؛ فعلى سبيل لمثال لا الحصر، قاسم بالنسبة لمحمود "منخدع بقراءاته ومغتر بالحضارات ومتحرر" ومحمود بالنسبة لقاسم "أفطس وأخفش".

 

 وهذا يجعل من المسرحية أرضية لصراع درامي ونفسي في الان نفسه؛ ويفتحها على ارتداد للعب لدورين أساسيين هما دور الصفقة الذي يكتنزه محمود، ودور الفكرة الذي يسكن قاسم ويستنير به في ظلام السفينة والبحر والعدو.

 

ومن الدلالات التي ترسم تجليات لها عبر المسرحية تلك المتعلقة بالكتابة ولعب الدور؛ إذ أن نهاية المسرحية تشهد انقلاب الأدوار الأساسية في النص المسرحي، وإعادة كتابة النص وتوزيع الأدوار وإعادة فعل الكتابة والخلق  من جديد  عملا بمقتضى مقولة "  كل كاتب خالق"  كما جاء على لسان سليم في المشهد الثامن من العمل المسرحي المحتفى به من خلال هذه القراءة.

 

ويزيد سليم من تعميق السؤال  عن الكتابة من خلال قوله في نفس المشهد بوجودهم  على متن خشبة مسرح وليس سفينة، وبأن هؤلاء الأشخاص يلعب بهم " هذا الكاتب" ويحركهم كيف ما شاء وفي اتجاه أي وجهة شاء، كمحاربين مفقودين لكاتدرائية ثكلى صاخبة الأجراس أو ما شابه مع كثير من التسليم لأمر الكاتب الواقع.

 

ينسج معنا الكاتب عصام صابر أيضا علاقة تواصلية ذات معان نفسية من خلال فاوست لن يتوب، فهو يتواصل بخصوص حالة حسية طارئة لأن نصه المسرحي طارئ، ووالج للحدث منذ الوهلة الأولى، ومندمج مع عقدة السفينة والنص معا منذ صدر أحداث البداية، ومطلع على ظلام البداية والنهاية، وفاهم ومتفهم  للعبة الحياة من أجل الكتابة ويكتب من أجل الحياة. وكأنه بهذا وما إليه من اختيارات مسرحية وفلسفية  يعاتب من خلال المسرح والكتابة، ويلعب بدوره دورا في لحظة من الحياة، ويتواصل بخصوصها ويعفو ويعيد القصة، ويبدل الأرقام والشخوص حتى تنمحي بين يديه وتصير لعبة وفقط. تم يترك كل شيء للصدفة وينهيه من جديد على الظلام، فقد انتهى الرجاء ولن يتوب فاوست من الذنب هو ومن شملتهم رياح سفينة غاوية.

 

يتواصل معنا الكاتب استنادا لما سبق كمرسل عبر رسالة يعاود صياغتها في منتصف الطريق ويحرك الأشخاص بيده، كما هو حال نصه لإعادة كتابة المسرحية من جديد، وتقمص دور جديد عبر قناة لغة متاحة واضحة في مطلعها ومشفرة في منعطفاتها. وهذا لا يمكن أن يكون اختيارا بعيدا عن معان ومدلولات لاواعية  تسكن الكاتب نفسه وشخصياته عن الحياة والكتابة ولعب الأدوار وموقعة الفعل والذات على ركح الحياة.

 

ولعل هذا الاختيار يحوم في فلك ما  يسميته باتريس بافيس بالمرتجلة؛ أي المسرحية التي يعاد ابتكارها ويقدمها الأشخاص كنص فوق النص، مما يجعلنا بذلك أمام مساهمة إبداعية  تنخرط في الميتا- مسرح أو الميتا- مسرحية؛ فإعادة المسرحية على أنقاض المسرحية الأم/المفترضة عرض داخل العرض نفسه، والذي يدفعنا خلسة للذهاب بسمعنا الى حيث اراد أن يقصف الكاتب نصه، ويفجر كلماته  على اعتبار أن أهم  شيء في التواصل هو القدرة على سماع كل ما لا يقوله الناس أو كما يقول بيتر داركر.

 

إن الكاتب وهو يكتب مسرحيته يعرف وجهته، لأن لكل منا وجهة ولا رقابة لأحد على أحد فلكل منا  مونولوجه وبوحه الخاص ففاوست لن يتوب، لأنه ذو ذاكرة أحادية فيها بعض من التحسس والتجسس  من الخشقجة من براميل الويل، على أرض محكمة أريد لها ان تكون علانية لتبقى المسرحية بدون عنوان، رغم قبولها كل العناوين قبل أن تعود وتنقلب على بدئها في ظلام مظلم.