يشهد العقل العربي اليوم لحظة تحوّل نوعية، تتجلى في تحرّره التدريجي من قبضة الأوهام الأيديولوجية التي لطالما كبّلته، وعطّلت قدرته على التمييز بين الحقيقة والدعاية، وبين المصلحة القومية والانخراط في مشاريع خارجية لم تخدم سوى أجندات فارسية. سقوط حزب الله واختفاء رموزه التاريخية مثّل لحظة مفصلية في هذا المسار التحرري، إذ انكشف زيف الشعارات التي رفعتها ما يُسمّى بمحور “المقاومة”، واتّضح أن الكثير من تلك الأدبيات لم تكن سوى أدوات لإعادة إنتاج الهيمنة الذهنية تحت غطاء التحرر، ولترسيخ الولاء للنظام الفارسي تُقمع فيها الأسئلة وتُقدّس فيها التبعية المطلقة.
لقد مثّل المشروع الإيراني منذ عقود استراتيجية مزدوجة: من جهة، تقديم نفسه كقوة داعمة لقضايا الشعوب العربية ورافعة لما يُسمى “خيار المقاومة”، ومن جهة أخرى، توظيف هذه الشعارات لاختراق البنية الفكرية والسياسية للمنطقة، عبر صناعة حركات وكيانات تابعة تُستعمل أدوات تنفيذية ضمن سياسة توسعية عابرة للحدود. غير أن التصدعات الأخيرة، وعلى رأسها انهيار حزب الله سياسيًا وعسكريا، كشفت عن الوجه الحقيقي لهذا المشروع، وعن هشاشته البنيوية في اللحظة التي يفقد فيها القدرة على احتكار السردية.
إذا ما انهار النظام الإيراني في حربه هاته التي خطط لها منذ مدة ببناء ترسانة صاروخية لم تتوفر لالمانيا النازية، فإننا سنكون أمام نقطة انعطاف كبرى في التاريخ السياسي والفكري للمنطقة العربية. إن نهاية هذا النظام لا تعني فقط سقوط بنية سياسية ، بل سقوط نموذج كامل من الهيمنة الرمزية التي قيدت العقل العربي لعقود بشعارات مضللة. آنذاك، سيتحرر الفضاء العربي من قوالب فكرية جامدة، كانت تتستر وراء خطاب التحرر، فيما هي تمارس – في العمق – الإقصاء والتوظيف الانتهازي لقضايا الأمة. وسيتكشف كم من المفاهيم أُدخلت قسرًا في الوعي الجمعي العربي، لا بهدف الدفاع عن فلسطين أو مقاومة الغرب كما يبدو لنا ظاهريا، بل بهدف ضمان ديمومة نظام ديني شمولي، ينظر إلى العرب ككتلة وظيفية ضمن مشروعه القومي الخاص.
إن تعامل طهران مع حزب الله يقدم أوضح مثال على هذه البراجماتية القاسية. لقد وظفته كذراع ضارب في صراعاتها مع إسرائيل والغرب، كما سخّرته لإعادة ترتيب توازنات القوى في سوريا والعراق واليمن، ثم تخلت عنه عندما لم تعد الحاجة إليه قائمة. الصمت الذي يلف مواقف الحزب بعد الضربات التي طالت بنية النظام الإيراني مؤخراً ليس موقفًا عرضيًا، بل هو نتاج إدراك عميق لطبيعة العلاقة الحقيقية بين الطرفين: علاقة سيطرة وتوظيف وليست علاقة تحالف نديّ. لم يصدر الحزب أي بيان إدانة أو دعم علني، لأن دروساً مريرة قد لُقّنت له في الكواليس، مفادها أن مصيره لا يساوي شيئاً أمام مصالح المشروع الأم.
الأمر ذاته ينطبق على النظام السوري، الذي بُني استقراره في العقد الأخير على تدخل إيراني مكثف، لكنه وجد نفسه، في لحظة حرجة، مكشوفًا ومجبرًا على الانسحاب خطوة تلو الأخرى من مشروع أصبح عبئًا. إيران تخلّت عن حلفائها حين لم يعد وجودهم يخدم أهدافها الاستراتيجية، وتركتهم يواجهون المصير وحدهم. والواقع أن ما تُسميه طهران “محور المقاومة” لم يكن سوى شبكة من الكيانات القابلة للاستهلاك السياسي، تُستبدل أو تُضحى بها كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
أما اليوم، فإن النظام الإيراني يعيش في عزلة خانقة، محاصرًا داخليًا بالاحتجاجات الشعبية وتآكل شرعيته، وخارجيًا بغياب الدعم الحقيقي من حلفائه المفترضين. لم يبق في صفّه سوى من لا يزال غارقًا في أوهام كبرى، يُغذيها الخطاب التعبوي الموجّه، دون إدراك لحقيقة أن طهران لم تكن يومًا حريصة على همومهم، بل وظّفتهم غطاءً لتمديد عمر نظامها المتهالك. لقد أصبح واضحًا أن المشروع الإيراني لم يكن مشروع وحدة أو تحرر، بل مشروع استخدام طويل الأمد لمظلومية الشعوب العربية من أجل إعادة إنتاج نمط من السيطرة الدينية والسياسية على المنطقة، لا يختلف في جوهره عن المشاريع الاستعمارية التي لطالما أدانها الخطاب الإيراني ذاته.
لقد سقط حزب لله، وسقطت معه الرمزية الكبرى التي كانت ترتكز عليها سردية المقاومة المؤدلجة. ومن هذه اللحظة، بات من المشروع القول إن المشروع الإيراني بأكمله يقف على حافة الانهيار، لا لأنه فقد قدرته العسكرية أو التمويلية، بل لأنه فقد قدرته على الإقناع، على صناعة الوهم، وعلى توجيه العقول. ومع سقوط الوهم، يسقط المشروع. والمستقبل لن يكون إلا لمن يعيد بناء الوعي العربي، خارج خرافات الهيمنة، وبعيدًا عن شعارات الخداع الاستراتيجي.
إدريس الفينة/ خبير اقتصادي