تشهد الأقاليم الجنوبية دينامية نقاشية لافتة، لا تعكس توتراً طارئاً بقدر ما تكشف عودة طبيعية لأسئلة بنيوية كانت مؤجّلة منذ 2007، واليوم يُعاد طرحها مع الدخول الفعلي في مرحلة هندسة الحكم الذاتي الموسّع.
هذه المقاربة لا تنحاز لوجهة نظر معيّنة، بل تسعى إلى نقل النقاش من توتّر الخطابات إلى وضوح الأسئلة، ومن الانطباعات المتبادلة إلى بناء رؤية مشتركة للمجال الجهوي المغربي كما قد يتشكّل في مرحلة ما بعد الحكم الذاتي.
أولاً: من مرحلة “المقترح” إلى مرحلة “الهندسة”
نحن اليوم أمام انتقال نوعي: من منطق المقترح (2007)، الذي وضع المبادئ العامة، إلى منطق الهندسة (2025)، الذي يفرض الإجابة عن الأسئلة المؤجّلة:
من يمثل من؟ ما هو الإقليم؟ كيف تُوزّع الصلاحيات؟
هذا الانتقال طبيعي وضروري في كل ورش مؤسساتي كبير.
ثانياً: تفكيك الإشكالات البنيوية الثلاثة
1. التمثيلية: هندسة التوازنات لا صراع الشرعيات
السؤال ليس: “من يملك الشرعية؟”
بل: كيف نبني تمثيلية متوازنة تستوعب كل مكوّنات المجتمع المحلي؟
وذلك عبر دمج ثلاث دوائر أساسية:
• الشرعية العرفية: الشيوخ كذاكرة اجتماعية وتراث وساطة.
• الشرعية الانتخابية: المنتخبون باعتبارهم الأداة الديمقراطية الحديثة.
• تمثيلية الفئات الجديدة: شباب المدن، النساء الفاعلات، النخب المهنية والاقتصادية.
هنا ينتقل النقاش من تنافس على الشرعية إلى هندسة مؤسساتية تستوعب الجميع.
2. التراب: معادلة الحدود الأممية والامتداد الوطني
الإطار الأممي يحدد الإقليم المشمول بالتفاوض بدقة.
لكن الامتداد الحساني–البيضانـي يتجاوز هذا الإطار ليشمل وادي نون شمالاً.
القلق هنا مفهوم وطبيعي:
هل سيؤدي الالتزام بالحدود الأممية إلى تضييق المجال الثقافي والتاريخي؟
الحل ليس في تعديل الإطار الأممي، بل في هندسة ترابية ذكية تسمح بـ:
• احترام الحدود المحددة أممياً،
• واستيعاب الامتداد الاجتماعي والثقافي داخل المجال الوطني الواسع.
3. الانسجام الوطني: المغرب “الصحراوي” كنموذج جديد للسيادة المرِنة
الحكم الذاتي ليس مشروع جهة واحدة، بل تجريب لنموذج جديد من توزيع السلطة داخل الدولة.
فإذا اعتمدت الصحراء نموذجاً متقدماً من الجهوية الموسعة، يصبح سؤال الانسجام مطروحاً:
هل سيتم تعميم هذا النموذج تدريجياً على باقي الجهات؟
مغربية الصحراء اليوم تعني أيضاً أن المغرب نفسه سيصبح صحراوياً في جزء من هندسته المؤسساتية.
ثالثاً: الحل المركّب — عقلانية فصل المسارات
المخرج الأكثر واقعية وفعالية هو الفصل بين مسارين:
المسار الأممي الصارم
الحكم الذاتي يُقترح داخل الإقليم المحدد بدقة في قرارات مجلس الأمن.
لا يُوسّع الإطار الترابي للتفاوض، ولا يُدخل المغرب في متاهات قانونية جديدة.
المسار الوطني لتدبير المجال (داخل السيادة الكاملة للدولة)
تملك الدولة المغربية كامل الحرية في منح أقاليم مثل:
طرفاية – الطنطان – وادي نون
صلاحيات موازية لتلك التي سيتمتع بها إقليم الحكم الذاتي،
لكن ضمن الجهوية المتقدمة
ودون إدراجها في المسار الأممي أو وصفها بـ”الحكم الذاتي”.
فالجهوية المتقدمة — وفق دستور 2011 وروحه التأويلية الديمقراطية كما أكد خطاب العرش لسنة 2011 —
تملك سقفاً واسعاً يمكنه احتواء أغلب وظائف الحكم الذاتي دون الحاجة إلى تغيير الصفة القانونية للإقليم.
رابعاً: استباق التحولات… الحكم الذاتي كجزء من رؤية استراتيجية للمجال المغربي
تنزيل الحكم الذاتي لن تكون له آثار محلية فقط، بل وطنية وإقليمية.
فالمغرب لم ينتظر القرار 2797 ليطوّر نموذجاً جديداً في بناء السيادة المرِنة؛
بل اشتغل منذ سنوات على هندسة مجال أوسع:
• الكركرات كشريان حيوي لاقتصاد غرب إفريقيا،
• المبادرة الأطلسية المغربية كمنطق جديد لإعادة تشكيل الفضاء الإقليمي.
لهذا يصبح استباق التحولات جزءاً من تدبير الحكم الذاتي، لا خطوة لاحقة له.
الخلاصة: الصحراء من “موضوع نزاع” إلى “مختبر دولة”
ما يجري اليوم علامة صحة سياسية في لحظة التأسيس.
الصحراء تتحول من موضوع نزاع إلى مختبر مؤسساتي لبناء نموذج مغربي جديد للسيادة المرنة،
ومن سؤال ترابي إلى سؤال دولة: كيف نعيد توزيع السلطة والتمثيل والمجال بما يحفظ وحدة الدولة ويستوعب تنوع المجتمع؟
إن عقلانية الحل المركّب، بما يقدمه من فصل ذكي بين المسارات واستباق للتحولات، تجعل منه المدخل الأنجع لضمان نجاح الحكم الذاتي…
لا كحل تقني، بل كنقطة انطلاق لمغرب جديد أكثر توازناً وتعدداً وقدرة على إدارة مجاله الجهوي.