Tuesday 9 December 2025
كتاب الرأي

زكية لعروسي: رشيدة داتي.. إمرأة لا تسمح للهزيمة أن تُعرِّفَها.. لأن ملامحها ذاتها معركة

زكية لعروسي: رشيدة داتي.. إمرأة لا تسمح للهزيمة أن تُعرِّفَها.. لأن ملامحها ذاتها معركة زكية لعروسي
رشيدة داتي ليست إسما عابرا في المشهد السياسي، بل ظاهرة تخرج من قلب التاريخ وكأنها مقطع ضائع من سفر عجائبي تمت إستعادته فجأة. إمرأة تنحدر من أصول شرقية مشعة، تحمل حرارتها في نبرة صوتها، في طبقات حضورها، في تلك الطاقة التي لا تتكرر، فتدخل السياسة كما تدخل الأساطير على مسرح الزمن: بلا تردد، بلا قناع، وبقلب يعرف ان الهشاشة أحيانا أقوى من السيوف.
هي ليست مجرد سياسية تتنقل بين المقابلات والندوات، بل كائن يتجاوز حدود الجغرافيا والإدارة، كأنها تلتحم بالمدينة التي تتحدث عنها، وتتنفس نبضها، فتضحك ضحكا يليق بالذين صنعتهم الحياة وصقلت قلوبهم التجارب. ضحك يشبه إرتعاشة الحديد عندما يطرق، وضحك آخر يشبه دفء الأمهات حين يطرحن كلمة طيبة على كتف طفل. وفي صوتها تصعد حرارة الشرق التي لا تطفئها بروتوكولات الجمهورية..هذه الثنائية الغريبة هي سرها: صلابة وفوران، ذكاء ومرح، جديّة وحضور خفيف الظل لا يلغي وزنه بل يضاعفه.
رشيدة داتي تحارب بلا هوادة. كأن السياسة لديها قدر لا يمكن تجاوزه، معركة لا تعرف الاستراحة، جسر طويل تعبره بقدمين تعرفان أنها إذا تعثرت تستقيم فورا، بلا هوادة، بلا إنتظار ليد تنتشلها. يقينها ليس جزءا من خطاب، بل من تكوينها الداخلي الذي خرج من بيئة تعرف أن الحياة لا تمنح الانتصارات مجانا. لذلك تبدو كلماتها، في كل ظهور، وكأنها تحمل رمادا قديما من معارك بعيدة، لكنها أيضا تشع بضوء جديد يولد من تحت القدمين.
في حملتها الانتخابية، تتحول رشيدة داتي إلى عداءة ماراتون لا تتوقف، إمرأة تركض مع المدينة وضدها، معها وضد تعبها، كأنها تحاول أن تسبق باريس كي تصل إليها. أينما ذهبت تجد من يحملها، كما تقول عبارتها التي صارت تشبه نذرا شخصيا: "Ou que j'aille, c'est vous qui me portez. Je me bats pour vous. Comptez sur moi." جملة ليست سياسية فحسب، بل عاطفية بعمق، كأنها خطاب لمدينة لها شكل القلب ولشعب له هيئة الصوت.
ولن يكون المرء قادرا على التفكير في ترشيحها لمنصب عمدة باريس دون أن يسمع جملتها الأخرى التي تمشي في الهواء: "On ne peut pas être maire de Paris sans aimer eperdument Paris et les Parisiens." كأنها تعيد تعريف العلاقة بين القائد والمدينة: ليس هو من يحتضنها فحسب، بل يجب أن تكون هي أيضا قادرة على أن تعيش في صدره، في لغته، في خطواته.
 
رشيدة داتي إمرأة لا تؤمن بالأقنعة. تظهر كما هي، بحدة أصلها، بعفوية تربيتها، بقوة نبرة خرجت من بيوت ضيقة ومساحات واسعة في آن واحد. هذا الصدق ليس أداة إنتخابية، بل طبع أصيل، يجعلها تقف بين الناس بلا مسافة، بلا بروتوكول بارد، بلا تلك الستائر الحديدية التي تخلقها السياسة عادة بين المسؤول والجمهور. حضورها يقطع الحدود لا لأنها تريد ذلك، بل لأن المشهد يفرض نفسه عليها فتعيش فيه كما يعيش الشعر في القصيدة: ضرورة لا إختيار.
وفي كل هذا الاندفاع، تظهر داتي كإمرأة لا تهزم، لا لأنها لا تسقط، بل لأنها ترفض أن تسمح للسقوط بأن يعرفها، مثل حجر في مجرى نهر لا يتحرك لكنه يغير شكل الماء. تاريخها الشخصي، بمزيجه من الجذور الشرقية والأدوار الفرنسية، يعطيها تلك القدرة الغريبة على الجمع بين قوة تزداد مع المعاناة وخفة تتسع مع النجاح.
 
رشيدة داتي
 
إذا كانت باريس مدينة الرموز، فإن رشيدة داتي هي أحد هذه الرموز، لكنها رمز من نوع آخر..رمز بشرية، معرّق بالحياة، لا يشبه التماثيل ولا الشعارات.
إنها المرأة التي جاءت تحمل حرارة الإنسان، لا برودة البروتوكول.
وتقف اليوم أمام مدينة الحلم كما يقف فارسة شرقية أمام بوابة من ذهب:
لا ليقتحمها…بل ليعيد إليها قلبها.
رشيدة داتي ليست مجرد مرشحة. إنها سردية تمشي، حكاية تخرج من الكتب، إمرأة مكونة من حدود إثنين: صلابة الشرق وأناقة الغرب. وفي قلب هذا كله، حوار لا ينتهي بينها وبين الناس، بين المدينة وتاريخها، بين الحلم والواجب. إمرأة إذا وقفت أثارت الانتباه، وإذا تكلمت أثارت الأسئلة، وإذا خاضت السياسة جعلت كل من حولها يتذكر أن الإنسان هو جوهر اللعبة، لا الكرسي.