في مقدمة كتابه "ما فائدة علم اجتماع؟" يطرح السوسيولوجي الفرنسي برنار بهير السؤال التالي: "ما فائدة الأطباء أو المزارعين أو رجال الإطفاء؟" ويسترسل قائلا: "تتبادر إلى أذهان الجميع إجابات بسيطة: الشفاء، وتوفير سبل العيش، وإنقاذ الأرواح. لكن المهن المختلفة التي تُشكل المجتمع ليست متساوية في مبرر وجودها، ولا تُشغل بالها بنفس القدر مسألة فائدتها الاجتماعية. ويضيف متسائلا "ما فائدة علم الاجتماع؟" ويقول إنه سؤالٌ جذريٌّ ومُستفزٌ في آنٍ واحد. فعندما نمارس نشاطًا ما، نادرًا ما نُضطر إلى التساؤل باستمرار عن "مبرر وجوده".
وفي السياق نفسه يمكن أن يتساءل المرء عن فائدة مهنة الصحافة في بلادنا وفي غيرها البلدان، وهو سؤال يتخذ الجواب عنه عدة أبعاد مهنية واجتماعية وسياسية في إطار الدور الذي تقوم به هذه المهنة، إلى جانب المهن المنظمة الأخرى كالمهندسين والأطباء والمحامين، خصوصا بعد سهام التشويه التي وجهت لها خلال الفترة الأخيرة من قبل محسوبين عليها، حيث يمكن القول بدون مبالغة، إن أكبر هجوم تعرضت له مهنة الصحافة، وأخطر ضرر لحقها كان من ورائه الصحفيون أنفسهم، مع العلم أن المهنة تعاني أصلا من هشاشة بنوية تشمل الجوانب القانونية والتنظيمية وضعف التكوين وهزالة الرواتب والأجور التي تصل في بعض المؤسسات الإعلامية إلى مستوى الإذلال، ويجعل هذا التشخيص مهنة الصحافة في بلادنا تبدو "مريضة" و"معطوبة" لأن أطرافا كثيرة داخل المجتمع تريدها أن تبقى كذلك..
بعد هذا التقديم تستدعي الضرورة إلى الوقوف عند التصور العام السائد حول مهنة الصحافة سواء في هذا البلد أو ذاك، سواء في هذه القارة أو تلك، سواء في العالم المتقدم أو الذي ما يزال يبحث عن التقدم، ذلك أن هذه المهنة تُعدّ حصنًا منيعًا ضد الرقابة الذاتية وتقييد حرية التعبير، وحارسة المعلومة وركيزة الديمقراطية، حيث يلعب الصحفيون دورا جوهريا، ويؤدون رسالة فريدة، تميزهم عن غيرهم من ممارسي المهن الأخرى في المجتمعات الديمقراطية. وتتمثل مهمتهم الأساس في جمع المعلومات الموثوقة والتحقق منها ونشرها، مما يُمكّن المواطنين من فهم مجتمعهم واتخاذ قرارات مستنيرة بشأن القضايا التي تهمهم، كما يمارسون شكلا من أشكال الرقابة على السلطة والنافذين وأصحاب القرار، ويكشفون عن الاختلالات والتجاوزات ومظاهر الفساد التي المستشرية، ويساهمون في توفير ضمانات الشفافية داخل المؤسسات، وهو الأمر الذي يعد شرطا حيويا بالنسبة للديمقراطية السليمة. وعلى عكس أصحاب المهن الأخرى كالأطباء والمهندسين والمحامين، الذين تتركز خبرتهم على الجوانب التقنية أو القانونية التي قد تتقاطع مع خدمة مصالحهم الخاصة، يتخصص الصحفيون في البحث عن المعلومات والتدقيق فيها ونقلها خدمةً للمصلحة العامة، مع التزام أخلاقي راسخ بالنزاهة والاستقلالية والموضوعية والمسؤولية.
والحقيقة أن الصحافة ليست مجرد وسيلة لنقل للمعلومات والأخبار؛ بل هي وظيفة اجتماعية وديمقراطية بالغة الأهمية والتعقيد والخطورة، هدفها الأساس إعلام الجمهور من خلال جمع المعلومات ذات الصلة بالأحداث والوقائع التي يشهدها المجتمع، والتحقق منها، والعمل على نشرها وتداولها، بالشكل الذي يمكن المواطنين من فهم بيئتهم، والمشاركة بفعالية في النقاش العمومي، واتخاذ قرارات مدروسة، سواءً كانت مرتبطة بالعمليات الانتخابية أم بالأنشطة الاقتصادية أو الاجتماعية أو أي أنشطة أخرى.
وإلى جانب كونها جامعة وفاحصة وناقلة للمعلومات التي تنير الرأي العام، فإن الباحثين اعتادوا على اعتبار الصحافة تُمثل "سلطة رابعة" أو "رقيبًا" حقيقيًا في المجتمعات الديمقراطية. فهي تتابع وتُدقق في أنشطة السلطات المعروفة، وتحاول الكشف عن مظاهر إساءة استخدام السلطة، والفساد، والممارسات غير الأخلاقية، سواءً داخل الحكومات أو الشركات أو غيرها من المؤسسات..
ويظهر أن هذه الوظيفة الرقابية أساسية لضمان الشفافية والمساءلة لمن هم في السلطة ومواقع القرار. وبدون صحافة منظمة قوية وقادرة على القيام بهذه الأدوار، لن يتمكن المواطنون من التوفر على معلومات موثوقة، مما يفتح الباب أمام التضليل الإعلامي ونشر الأخبار الزائفة وبالتالي انعدام المسؤولية والإفلات من العقاب وتآكل الديمقراطية.
والواقع أن مهنة الصحافة تخضع لمبادئ أخلاقية صارمة، تفرض ضمان جودة المعلومات وموثوقيتها. وتُعدّ الموضوعية والحياد والاستقلالية ركائز أساسية لها، حيث يلتزم الصحفيون بالبحث عن الحقيقة، والتحقق من مصادرهم، وعرض المعلومات والحقائق بلغة دقيقة ومنطق متوازن، حتى لو كانت موجعة ومزعجة لهذا الطرف أو ذاك. ويُعدّ هذا المسعى أمرًا أساسيًا للحفاظ على ثقة الجمهور ومقاومة الضغوط الخارجية، سواءً أكانت سياسية أم اقتصادية أم أيديولوجية.
ومن فضائح الفساد إلى مظاهر الظلم الاجتماعي، غالبًا ما يساهم العمل الدؤوب للصحفيين في تسليط الضوء على المشاكل التي تعيق التقدم إلى الأمام، مما يدفع المسؤولين أصحاب القرار إلى مراجعة سياساتهم وبرامجهم وقراراتهم، ويُمكّن من إجراء الإصلاحات والتحسينات الضرورية. ويكتسب هذا الدور أهمية خاصة في عالمٍ يُمكن فيه للتضليل و"الأخبار الكاذبة" أن تُقوّض ثقة الجمهور وتنشر التفرقة والفتنة بين أفراد المجتمع.
ولا شك أن استمرار المجتمع الديمقراطي وازدهاره يرتبط ارتباطًا وثيقًا بوجود صحافة قوية وفاعلة، حيث يُوفّر الصحفيون المادة الخام الأساسية لاتخاذ القرارات الجماعية، فبدون المعلومات يُفقَدُ النقاش العمومي، وتُكمم الأصوات المعارضة والفئات المهمّشة، ويضعف فهم القضايا التي تهم المواطنين. ومن خلال فتحها المجال أمام القضايا المسكوت عنها ومنحها الكلمة لمختلف شرائح المجتمع، تضمن الصحافة تعدد الآراء واحترام الحقوق الأساسية. ومع ذلك، غالبًا ما تكون ممارسة هذه المهنة محفوفة بالمخاطر، حيث يواجه الصحفيون مخاطر الترهيب والاعتقال، أو حتى الاغتيال، لمجرد جرأتهم على كشف حقائق تُقلق أصحاب النفوذ، ويذكر التاريخ الصحافة العالمية الصحفية البولندية "فرونيكا غيرين" التي تعرضت للتصفية من قبل بارونات المخدرات ومن كانوا سندا لهم من المسؤولين، فقط لأنها كشفت عن خطورة نشاط هؤلاء على الشباب وعلى المجتمع ككل.
وانطلاقا مما سبق يمكن القول إن الصحافة ركن أساس من أركان المجتمعات الحديثة، ورسالتها واضحة تتمثل في إعلام الجمهور وتثقيفه وتمكينه، من خلال تقديم معلومات دقيقة وحقائق مُوثّقة وتحليلات متنوعة، بخلاف المهن المتخصصة الأخرى كالطب والهندسة والمحاماة، ليس من المفترض أن يُعالج الصحفيون المرضى، أو يشيدوا البنايات أو يُدافعوا عن المتهمين أمام المحاكم، كما يفعل الأطباء والمهندسون والمحامون، بل مهمتهم هي أن يراقبوا ويتحرّوا وينقلوا المعلومات من أجل تنوير المواطنين وخدمة الصالح العام. إنهم حماة الحقيقة، والساهرون على ضمان الشفافية، وهو دور لا غنى عنه يُبرّر الحاجة المُلحّة للمجتمعات إلى صحفيين يتحلون بالنزاهة الأخلاقية والقوة التنظيمية والشجاعة الفكرية، وقبل ذلك بالتماسك والتضامن المهني، وهو الأمر الذي يفرض إعادة بناء هذه المهنة في بلادنا وتطهيرها من المتطفلين عليها. فإذا كانت، ومهنة الطب لا تقبل إلا الأطباء، ومهنة الهندسة لا تقبل إلا المهندسين، ومهنة المحاماة لا تقبل إلا المحامين، فإن مهنة الصحافة بدورها ينبغي ألا تقبل إلا الصحفيين..
عبدالفتاح الصادقي ، باحث وإعلامي