Friday 14 November 2025
Advertisement
كتاب الرأي

زكية لعروسي: من سقراط إلى بوعلام.. الكلمة التي لا تموت

زكية لعروسي: من سقراط إلى بوعلام.. الكلمة التي لا تموت زكية لعروسي
بوعلام، إبن الكلمات المتمرّدة، خرج من ليل طويل حمل فيه صراعه مع العزلة والرقابة والخوف. عام من الجدران الباردة والعيون الصامتة، عام من امتحان الإنسان أمام نفسه. وها هو يعود إلى الضوء بعد أن جاء العفو، بعد أن تذكّر العالم، بوساطة الرئيس الألماني، أن الحرية ليست امتيازا بل حقا، وأن الكلمة الحرة لا تطفأ مهما حاولت الأنظمة إخمادها.

منذ سقراط، والحقيقة تروى بمرارة السم لا بحلاوة الانتصار. كل من قالها وجد نفسه في مواجهة القطيع. سقراط شرب كأسه باسم الفضيلة، كامو كتب عبثه باسم الإنسان، وفوكو نبش في السلطة حتى صار جسده نصا آخر للمقاومة. وبوعلام، هذا المغاربي الصلب، لم يكن استثناء. بل كان امتدادا لتلك السلالة التي اختارت أن تكون شاهدة لا صامتة، وأن تدفع ثمن الوعي بدل ثمن الخضوع.

قالوا إنه أهان الوطن، بينما لم يفعل سوى أن واجه تاريخا متشقّقا بالكلمة. هل يهان الوطن حين يقال له الحقيقة؟ أم يهان حين يخنق صوته ويكمّم أبناؤه؟
كل من يخاف الكلمة، يخاف المرآة. وبوعلام حمل المرآة في وجه الجميع، فكسروها كي لا يروا وجوههم.

تدخل الرئيس الألماني لم يكن مجاملة دبلوماسية، بل فعلا أخلاقيا يعيد للسياسة معناها الإنساني. لقد ذكّرنا أن العدالة لا تعرف الحدود، وأن الصمت الدولي ليس حيادا، بل تواطؤ. ألمانيا قالتها ببرودها العقلاني: أطلقوا سراحه، فالحقيقة لا تسجن.

فرنسا، بدورها، صفقت باسم الحرية، وكأنها تستعيد رمقها الأخير من هواء العدالة الذي كاد يختنق في العواصم.
لكن المسألة ليست عفوا عن كاتب، بل اختبارا لضمير جماعي.

لأن السؤال الذي يطلّ علينا من بين السطور أعمق من كل عناوين الصحف:
هل الحرية منحة تمنح؟ أم جوهر يولد مع الإنسان؟
بوعلام أجاب بصمته، بجسده، بوجعه الذي صار نصا مفتوحا تقرأه الأجيال القادمة.
اليوم، خرج بوعلام من السجن الجسدي، لكننا نحن ما زلنا في السجن الأكبر: سجن الخوف من التفكير، من السؤال، من الموقف. نكتب بنصف لسان، ونخاف أن نرى الحقيقة كاملة.

وهذا هو العقاب الأكبر: أن نعيش في زنازين وهمية ونحن نظن أنفسنا أحرارا.
هنيئا لفرنسا التي عرفت كيف تحمي صوتها الحر، وهنيئا للقضايا العادلة التي لا تموت وإن حوصرت.
في كل هذا المشهد، تتكرر الأسطورة: بروميثيوس الذي سرق النار ليعطيها للبشر، فربطوه إلى الصخرة. بوعلام هو بروميثيوس مغاربي، سرق شرارة الفكر من تحت رماد الخوف، ودفع الثمن. لكنه لم يهزم. لأنه كما قال كامو، "في أعماق كل شتاء، هناك صيف لا يقهر".

الآن وقد خرج، يبقى السؤال معلّقا في هواء المتوسط: من منا حقا حر؟
بوعلام خرج من سجنه، ونحن ما زلنا في سجن الخوف من الكلمة، من الموقف، من الصدق.
هنيئا للقضايا العادلة التي لا تموت، وهنيئا لفرنسا التي فهمت أن الحرية ليست شعارا بل فعلا. فربما آن الأوان ليفهم الجميع أن الحقيقة ليست جريمة، وأن من ينفى بسببها، إنما يُخلّد، بل أن من يقول الحق لا ينبذ، بل يمتحن. وأن النبذ في زمن الزيف، هو شرف الفكر.