Wednesday 5 November 2025

كتاب الرأي

فكري سوسان: القرار الأممي حول الصحراء المغربية: خمسة مفاتيح لقراءة زمن الواقعية الهادئة

فكري سوسان: القرار الأممي حول الصحراء المغربية: خمسة مفاتيح لقراءة زمن الواقعية الهادئة فكري سوسان
يشكّل‭ ‬القرار‭ ‬الأخير‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬الدولي‭ ‬في‭ ‬31‭ ‬أكتوبر‭ ‬2025‭ ‬بشأن‭ ‬الصحراء‭ ‬المغربية‭ ‬محطة‭ ‬مفصلية‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬هذا‭ ‬الملف‭ ‬الإقليمي،‭ ‬إذ‭ ‬كرس‭ ‬مبادرة‭ ‬الحكم‭ ‬الذاتي‭ ‬كحلّ‭ ‬واقعي‭ ‬ودائم،‭ ‬وأعاد‭ ‬تأكيد‭ ‬الدور‭ ‬المحوري‭ ‬للمملكة‭ ‬المغربية‭ ‬في‭ ‬ترسيخ‭ ‬الاستقرار‭ ‬الإقليمي‭. ‬خمس‭ ‬زوايا‭ ‬أساسية‭ ‬تُضيء‭ ‬أبعاد‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬التاريخي:‭ ‬من‭ ‬ترسيخ‭ ‬الواقعية‭ ‬السياسية‭ ‬إلى‭ ‬إبراز‭ ‬المغرب‭ ‬كقوة‭ ‬هادئة‭ ‬تبني‭ ‬نفوذها‭ ‬على‭ ‬الثبات‭ ‬والرؤية‭ ‬البعيدة‭.‬
 
1‭. ‬ترسيخ‭ ‬الواقعية‭ ‬السياسية
ينطلق‭ ‬القرار‭ ‬من‭ ‬فكرة‭ ‬واضحة:‭ ‬السلام‭ ‬الدائم‭ ‬لا‭ ‬يقوم‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬مؤسسات‭ ‬راسخة‭ ‬وقابلة‭ ‬للتطبيق‭. ‬فمبادرة‭ ‬الحكم‭ ‬الذاتي‭ ‬التي‭ ‬قدمها‭ ‬المغرب‭ ‬سنة‭ ‬2007‭ ‬باتت‭ ‬اليوم‭ ‬الإطار‭ ‬العملي‭ ‬الأكثر‭ ‬واقعية،‭ ‬لأنها‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬السيادة‭ ‬الوطنية‭ ‬والتمثيل‭ ‬المحلي‭ ‬والاستقرار‭ ‬الإقليمي‭. ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬اعتمدها‭ ‬القرار‭ ‬الأممي‭ ‬جاءت‭ ‬متوازنة‭ ‬ودقيقة،‭ ‬إذ‭ ‬تحدثت‭ ‬عن‭ ‬«حل‭ ‬سياسي‭ ‬عادل‭ ‬ودائم»،‭ ‬ووضعت‭ ‬المقترح‭ ‬المغربي‭ ‬في‭ ‬صدارة‭ ‬الخيارات‭ ‬الجدية‭ ‬المطروحة‭ ‬أمام‭ ‬المجتمع‭ ‬الدولي‭.‬
هذا‭ ‬الاعتراف‭ ‬لم‭ ‬يأتِ‭ ‬من‭ ‬فراغ،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬ثمرة‭ ‬مسار‭ ‬طويل‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬المتراكم‭. ‬فعودة‭ ‬المغرب‭ ‬إلى‭ ‬الاتحاد‭ ‬الإفريقي،‭ ‬وتوسيع‭ ‬شراكاته‭ ‬الأطلسية،‭ ‬والاستثمارات‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬الأقاليم‭ ‬الجنوبية،‭ ‬كلها‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬قضية‭ ‬الصحراء‭ ‬نموذجًا‭ ‬في‭ ‬الحكامة‭ ‬التنموية‭.‬
لم‭ ‬تعد‭ ‬المسألة‭ ‬تُطرح‭ ‬فقط‭ ‬بلغة‭ ‬السياسة،‭ ‬بل‭ ‬بلغة‭ ‬التنمية،‭ ‬حيث‭ ‬تُقاس‭ ‬الشرعية‭ ‬بما‭ ‬يُنجز‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬من‭ ‬مشاريع‭ ‬ومؤسسات‭ ‬وفرص‭ ‬عمل‭ ‬تُجسد‭ ‬الثقة‭ ‬والاستقرار‭.‬
 
2‭. ‬تراجع‭ ‬السردية‭ ‬الجزائرية
على‭ ‬مدى‭ ‬عقود،‭ ‬جعلت‭ ‬الجزائر‭ ‬من‭ ‬ملف‭ ‬الصحراء‭ ‬رهانًا‭ ‬أيديولوجيًا‭ ‬يُستعمل‭ ‬لتغذية‭ ‬خطاب‭ ‬المواجهة‭. ‬لكن‭ ‬القرار‭ ‬الجديد‭ ‬كشف‭ ‬محدودية‭ ‬هذا‭ ‬النهج‭. ‬فالمجتمع‭ ‬الدولي‭ ‬يتحدث‭ ‬اليوم‭ ‬بلغة‭ ‬التوافق‭ ‬والمسؤولية‭ ‬المشتركة،‭ ‬ما‭ ‬يضع‭ ‬الجزائر‭ ‬أمام‭ ‬واقع‭ ‬جديد‭. ‬
في‭ ‬حين‭ ‬يمضي‭ ‬المغرب‭ ‬في‭ ‬تثبيت‭ ‬مؤسساته‭ ‬وتنمية‭ ‬أقاليمه‭ ‬الجنوبية،‭ ‬تجد‭ ‬الجزائر‭ ‬نفسها‭ ‬أسيرة‭ ‬خطاب‭ ‬متجاوز‭.‬
لقد‭ ‬تغيّر‭ ‬محور‭ ‬النقاش‭ ‬العالمي‭ ‬من‭ ‬المواجهة‭ ‬إلى‭ ‬التنمية،‭ ‬ومن‭ ‬الشعارات‭ ‬إلى‭ ‬الحقائق‭ ‬الملموسة،‭ ‬ما‭ ‬أفقد‭ ‬الخطاب‭ ‬الجزائري‭ ‬زخمه‭ ‬التقليدي‭.‬
في‭ ‬الإعلام‭ ‬الجزائري،‭ ‬يظهر‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬بوضوح:‭ ‬نبرة‭ ‬الانتصار‭ ‬القديمة‭ ‬استبدلت‭ ‬بقلق‭ ‬خافت‭. ‬حتى‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الدبلوماسي،‭ ‬لم‭ ‬تجد‭ ‬الجزائر‭ ‬دعمًا‭ ‬حقيقيًا،‭ ‬إذ‭ ‬امتنعت‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬موسكو‭ ‬وبكين‭ ‬عن‭ ‬استخدام‭ ‬حق‭ ‬النقض،‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬واضحة‭ ‬إلى‭ ‬نهاية‭ ‬مرحلة‭ ‬وميلاد‭ ‬أخرى‭ ‬تُكرّس‭ ‬الواقعية‭ ‬بدل‭ ‬الشعارات‭.‬
 
3‭. ‬انتصار‭ ‬الزمن‭ ‬الطويل
لم‭ ‬يكن‭ ‬القرار‭ ‬الأممي‭ ‬الأخير‭ ‬حدثًا‭ ‬عابرًا،‭ ‬بل‭ ‬تتويجًا‭ ‬لمسار‭ ‬استراتيجي‭ ‬طويل‭ ‬قاده‭ ‬الملك‭ ‬محمد‭ ‬السادس‭ ‬برؤية‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬الاستبصار‭ ‬والثبات‭. ‬فالعودة‭ ‬إلى‭ ‬الاتحاد‭ ‬الإفريقي،‭ ‬وتفعيل‭ ‬الشراكات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والطاقية،‭ ‬وتطوير‭ ‬البنيات‭ ‬التحتية‭ ‬في‭ ‬الأقاليم‭ ‬الجنوبية،‭ ‬كلها‭ ‬خطوات‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬السيادة‭ ‬المغربية‭ ‬واقعًا‭ ‬ملموسًا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬شعارًا‭ ‬سياسيًا‭.‬
هذا‭ ‬«الزمن‭ ‬الطويل»‭ ‬هو‭ ‬رصيد‭ ‬المغرب‭ ‬الحقيقي‭. ‬فالمثابرة‭ ‬السياسية‭ ‬والدبلوماسية‭ ‬أنتجت‭ ‬شرعية‭ ‬متينة‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬الخطابة‭. ‬القرار‭ ‬الأممي‭ ‬جاء‭ ‬ليؤكد‭ ‬أن‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬الهادئة‭ ‬والمستمرة‭ ‬أكثر‭ ‬فاعلية‭ ‬من‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬الانفعالية‭. ‬الثبات‭ ‬أصبح‭ ‬أداة‭ ‬تأثير،‭ ‬والاتساق‭ ‬صار‭ ‬معيارًا‭ ‬للثقة‭.‬
 
4‭. ‬مرحلة‭ ‬التنفيذ‭: ‬من‭ ‬الاعتراف‭ ‬إلى‭ ‬البناء
يفتح‭ ‬القرار‭ ‬الجديد‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬عنوانها‭ ‬تحويل‭ ‬الاعتراف‭ ‬الدولي‭ ‬إلى‭ ‬إنجاز‭ ‬عملي‭.‬
فمفهوم‭ ‬الحكم‭ ‬الذاتي‭ ‬لا‭ ‬يتحقق‭ ‬إلا‭ ‬بحكامة‭ ‬رشيدة،‭ ‬وشفافية‭ ‬في‭ ‬التسيير،‭ ‬ومشاركة‭ ‬فعلية‭ ‬للمواطنين‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬القرار‭ ‬المحلي‭.‬
الإصلاحات‭ ‬الجارية‭ ‬في‭ ‬الأقاليم‭ ‬الجنوبية‭ ‬مطالبة‭ ‬اليوم‭ ‬بتعميق‭ ‬اللامركزية‭ ‬وتعزيز‭ ‬الكفاءة‭ ‬الإدارية‭ ‬وضمان‭ ‬توازن‭ ‬التنمية‭ ‬بين‭ ‬المدن‭ ‬والمناطق‭.‬
النجاح‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬يتوقف‭ ‬على‭ ‬التنسيق‭ ‬بين‭ ‬السلطات‭ ‬المحلية‭ ‬والمركزية،‭ ‬وعلى‭ ‬وضوح‭ ‬المسؤوليات‭ ‬وصرامة‭ ‬التنفيذ‭.‬
فالصحراء‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬مختبرًا‭ ‬لنموذج‭ ‬مغربي‭ ‬في‭ ‬التنمية‭ ‬المستدامة‭ ‬والتدبير‭ ‬الرشيد،‭ ‬يُجسد‭ ‬روح‭ ‬الحكم‭ ‬الذاتي‭ ‬في‭ ‬الممارسة‭ ‬اليومية‭. ‬بهذه‭ ‬الروح،‭ ‬يتحول‭ ‬«الواقعية‭ ‬الدبلوماسية»‭ ‬إلى‭ ‬«واقعية‭ ‬في‭ ‬تدبير‭ ‬الشأن‭ ‬العام»،‭ ‬أي‭ ‬إلى‭ ‬التقاء‭ ‬الرؤية‭ ‬بالنتيجة‭.‬
 
5‭. ‬المغرب،‭ ‬قطب‭ ‬استقرار‭ ‬في‭ ‬المنطقة
أكد‭ ‬التصويت‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬في‭ ‬31‭ ‬أكتوبر‭ ‬2025‭ ‬مكانة‭ ‬المغرب‭ ‬كفاعل‭ ‬توازن‭ ‬واستقرار‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭.‬
فخطة‭ ‬الحكم‭ ‬الذاتي،‭ ‬التي‭ ‬تحظى‭ ‬بتأييد‭ ‬متزايد‭ ‬من‭ ‬العواصم‭ ‬المؤثرة،‭ ‬أصبحت‭ ‬عنوانًا‭ ‬لدبلوماسية‭ ‬مغربية‭ ‬متزنة‭ ‬وفعّالة‭.‬
من‭ ‬مشروع‭ ‬أنبوب‭ ‬الغاز‭ ‬المغرب–نيجيريا‭ ‬إلى‭ ‬المبادرة‭ ‬الأطلسية‭ ‬الإفريقية،‭ ‬يثبت‭ ‬المغرب‭ ‬أنه‭ ‬مركز‭ ‬ثقل‭ ‬يربط‭ ‬بين‭ ‬ضفتي‭ ‬الأطلسي‭.‬
هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬تنبع‭ ‬من‭ ‬قناعة‭ ‬راسخة‭ ‬بأن‭ ‬السلام‭ ‬يُبنى‭ ‬على‭ ‬الثقة‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬التباعد‭. ‬ودعوة‭ ‬الملك‭ ‬محمد‭ ‬السادس‭ ‬إلى‭ ‬"حوار‭ ‬صادق‭ ‬وأخوي"‭ ‬مع‭ ‬الجزائر‭ ‬تُجسد‭ ‬هذا‭ ‬الوعي‭ ‬الاستراتيجي،‭ ‬إذ‭ ‬يؤمن‭ ‬المغرب‭ ‬بأن‭ ‬مستقبل‭ ‬المنطقة‭ ‬المغاربية‭ ‬لا‭ ‬يُبنى‭ ‬بالقطيعة‭ ‬بل‭ ‬بالشراكة‭ ‬والمسؤولية‭ ‬المشتركة‭.‬
في‭ ‬ظل‭ ‬تحديات‭ ‬الساحل،‭ ‬والأزمات‭ ‬الطاقية،‭ ‬والهجرات‭ ‬العابرة‭ ‬للقارات،‭ ‬تبرز‭ ‬المقاربة‭ ‬المغربية‭ ‬كخيار‭ ‬عملي‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬الاستقرار‭ ‬الداخلي‭ ‬والتعاون‭ ‬الواقعي‭. ‬لقد‭ ‬أصبحت‭ ‬الثبات‭ ‬والاتساق‭ ‬معيارين‭ ‬جديدين‭ ‬للقوة‭ ‬الناعمة‭ ‬المغربية،‭ ‬ولحضورها‭ ‬المسؤول‭ ‬في‭ ‬محيطها‭ ‬الإفريقي‭ ‬والمتوسطي‭.‬
 
خاتمة
يفتح‭ ‬القرار‭ ‬الأممي‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬عنوانها‭ ‬الوضوح‭ ‬والمسؤولية‭ ‬المشتركة‭. ‬فالمغرب‭ ‬يتقدم‭ ‬بخطى‭ ‬ثابتة،‭ ‬مرتكزًا‭ ‬على‭ ‬الشرعية‭ ‬والقانون‭ ‬والدبلوماسية‭ ‬الهادئة،‭ ‬وفق‭ ‬منهج‭ ‬أثبت‭ ‬نجاعته‭ ‬وصموده‭ ‬أمام‭ ‬المتغيرات‭.‬
في‭ ‬الرباط‭ ‬يسود‭ ‬مناخ‭ ‬من‭ ‬الثقة‭ ‬والتصميم،‭ ‬بينما‭ ‬تسود‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬التردد‭ ‬والمراجعة‭.‬
الرسالة‭ ‬واضحة:‭ ‬الاستقرار‭ ‬لا‭ ‬يُمنح،‭ ‬بل‭ ‬يُكتسب‭ ‬بالعمل‭ ‬المتواصل‭ ‬وبواقعية‭ ‬تضع‭ ‬المصلحة‭ ‬الوطنية‭ ‬فوق‭ ‬كل‭ ‬اعتبار‭.‬
كما‭ ‬قال‭ ‬سينيكا:‭ ‬«من‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يبلغ‭ ‬غايته،‭ ‬فليسلك‭ ‬طريقًا‭ ‬واحدًا،‭ ‬ولا‭ ‬يتشتت‭ ‬في‭ ‬طرق‭ ‬كثيرة»‭.‬
د.فكري سوسان، أستاذ باحث