Sunday 2 November 2025
Advertisement
كتاب الرأي

العلوي: ثقة واستثمار وتحول.. من اعتراف أممي إلى تنمية عادلة في الأقاليم الجنوبية المغربية

العلوي: ثقة واستثمار وتحول.. من اعتراف أممي إلى تنمية عادلة في الأقاليم الجنوبية المغربية عائشة العلوي
اتخذ المغرب قرارًا حكيمًا بالاستثمار المكثف في الأقاليم الجنوبية، وهو قرار يحمل دلالات سياسية واقتصادية واستراتيجية عميقة. وفي هذا السياق، يطرح السؤال: كيف سيعزّز قرار الأمم المتحدة الأخير، الداعم للمبادرة المغربية للحكم الذاتي، ثقة المستثمرين والشركاء الدوليين في الأقاليم الجنوبية تحت السيادة المغربية؟ وما هي المشاريع التنموية الكبرى التي تعزّز مستقبل الصحراء كجزء لا يتجزأ من السيادة الترابية للمغرب؟ ثم ما صلة هذا القرار بالتحولات الاقتصادية العميقة التي تعرفها المنطقة؟
لقد شكّل تصويت الأمم المتحدة لصالح المبادرة المغربية للحكم الذاتي حدثًا تاريخيًا ومنعطفًا حاسمًا في مسار النزاع الإقليمي حول الصحراء. فقد اعتُبر هذا التصويت اعترافًا بشرعية الرؤية المغربية القائمة على مبدأ الوحدة الترابية والتنمية المتوازنة والعادلة والمستدامة. ويأتي هذا القرار ليعزّز المكانة الدولية للمغرب، ويرسل رسالة واضحة إلى المستثمرين والشركاء الدوليين مفادها أن الاستقرار السياسي والمؤسساتي في الأقاليم الجنوبية لم يعد محلّ نقاش، بل أصبح حقيقة راسخة تدعمها الشرعية الدولية. إنه اعتراف بالحق التاريخي للمغرب في أراضيه، وبداية نهاية لمناورات طال أمدها استهدفت إضعاف المغرب سياسيًا واقتصاديًا.
إن تعزيز الثقة في مناخ الأعمال بالأقاليم الجنوبية يمر عبر وضوح الرؤية السياسية وضمان الأمن القانوني للمشاريع الاستثمارية، وهو ما تحقق اليوم بفضل الاعتراف الأممي بمسار الحكم الذاتي كحلّ واقعي ودائم. هذا التحول يُطمئن رؤوس الأموال الأجنبية والمؤسسات المالية الدولية التي كانت تتردّد في السابق بسبب المناورات والتشويش. إنه لحظة ثقة جديدة تتيح للمغرب تعزيز موقعه في المفاوضات الاقتصادية وتوسيع شراكاته الدولية. ومع استقرار الأوضاع السياسية، تصبح الأقاليم الجنوبية مجالًا مفتوحًا للاستثمار في الطاقات المتجددة، الصيد البحري، السياحة المستدامة، والخدمات اللوجستية، وهي قطاعات تحمل مستقبل الاقتصاد المغربي الأخضر.
ولا يمكن فهم هذا الزخم الجديد دون الإشارة إلى الدينامية التنموية المتواصلة التي أطلقها المغرب منذ سنوات في الجنوب، وخاصة في مدينتي الداخلة والعيون، اللتين تحولتا إلى نموذجين للتنمية المندمجة والعادلة. فمشروع ميناء الداخلة الأطلسي، الذي يُعد من أكبر المشاريع البحرية في إفريقيا، يجسد رؤية استراتيجية تهدف إلى جعل المنطقة منصة لوجستية وتجارية تربط المغرب بعمقه الإفريقي والأطلسي. هذا المشروع ليس مجرد بنية تحتية، بل تجسيد فعلي لـمغربية الصحراء، حيث يترجم اندماج الأقاليم الجنوبية في الدورة الاقتصادية القارية والعالمية.
وفي الاتجاه ذاته، يشكّل الاستثمار في الطاقات المتجددة ركيزة أساسية للتحول الاقتصادي في المنطقة. فالأقاليم الجنوبية تمتلك إمكانات هائلة في مجالي الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، مما جعلها وجهة جاذبة للمشاريع الخضراء الكبرى. هذه المشاريع لا تسهم فقط في تقليص التبعية الطاقية وتعزيز السيادة المغربية، بل تفتح أيضًا آفاقًا جديدة للتصدير وللشراكات الدولية ضمن اقتصاد أخضر وأزرق متكامل، يعزز مكانة المغرب كفاعل إقليمي رائد في مجال الطاقة المستدامة.
أما مشروع الطريق السريع تزنيت–الداخلة، فهو أكثر من مجرد ممر بري؛ إنه شريان اقتصادي استراتيجي يربط شمال المملكة بجنوبها، ويُيسر حركة الأشخاص والبضائع، ويمهد لتكامل تجاري متزايد مع دول غرب إفريقيا. ومع اكتمال هذا المشروع، تكتمل صورة المغرب الموحد والمتكامل اقتصاديًا، حيث لا تُترك أي منطقة خارج مسار التنمية الشاملة. إنه طريق لبناء مغرب عادل ومستدام ومتضامن مجاليًا.
وترتبط هذه المشاريع الكبرى ارتباطًا وثيقًا بالتحولات الاقتصادية الأوسع في المنطقة، إذ يرسخ المغرب اليوم موقعه كبوابة استراتيجية نحو إفريقيا، مستفيدًا من الموقع الجغرافي للأقاليم الجنوبية كجسر بين أوروبا وإفريقيا جنوب الصحراء. كما أن التوجه نحو الاقتصاد الأخضر والاقتصاد الأزرق والتحول الطاقي يجعل من هذه الأقاليم مختبرًا حقيقيًا لتجربة التنمية المستدامة القائمة على العدالة المجالية والسيادة الاقتصادية.
إن هذا المنعطف التاريخي سيفتح آفاقًا واعدة أمام شراكات دولية جديدة، خاصة مع القوى الاقتصادية الصاعدة والتكتلات الكبرى مثل "بريكس بلاس"، ولا سيما الصين وروسيا اللتين تبديان اهتمامًا متزايدًا بالاستثمار في إفريقيا من بوابة المغرب. ويمكن أن تواكب هذه المرحلة مشاريع نوعية في إطار الاقتصاد المستقبلي، مثل إنشاء خط القطار فائق السرعة بين أكادير والعيون والداخلة، مما سيعزز الاندماج الاقتصادي بين الشمال والجنوب، ويحوّل الصحراء إلى محور للتجارة الإفريقية -الأطلسية.
كما يمكن أن تحتضن المنطقة مشاريع كبرى في الصناعات التكنولوجية والطيران، وإنشاء محطات ضخمة لتخزين ومعالجة البيانات، مستفيدة من موقعها الجغرافي المتميز وقربها من أوروبا وأمريكا وإفريقيا جنوب الصحراء. هذه المشاريع المستقبلية، إلى جانب تطوير المناطق الصناعية والخدمات اللوجستية، ستجعل من الأقاليم الجنوبية مركزًا جديدًا للاقتصاد الأخضر والرقمي، ومختبرًا لنموذج تنموي مستدام وعادل يعكس الرؤية المغربية الطموحة نحو اقتصاد قائم على الابتكار والسيادة التكنولوجية واقتصاد المعرفة.
من منظور سياسي واقتصادي، يمكن القول إن قرار الأمم المتحدة يشكل تحولًا من الشرعية القانونية والاعتراف التاريخي بسيادة المغرب إلى الشرعية التنموية والتحرر الاقتصادي في إفريقيا. فالتجربة المغربية في هذا النزاع المفتعل تبرهن أن الحل لا يكمن في الحرب أو الانقسام، بل فيمن يخلق التنمية ويضمن الاستقرار. والمغرب، عبر سياساته واستثماراته في الصحراء، يقدّم البرهان العملي على أن التنمية هي أقوى أشكال السيادة.
في الختام، إن تصويت الأمم المتحدة لصالح مبادرة الحكم الذاتي المغربي لم يأت من فراغ، بل جاء تتويجًا لمسار طويل من الإصلاحات والدبلوماسية التنموية التي انتهجها المغرب. إنه تأكيد على أن السيادة تُثبت بالفعل لا بالقول، وأن الاستثمار في الإنسان والبنية التحتية هو الطريق الآمن لترسيخ الوحدة الوطنية. ومع تنامي المشاريع الكبرى واستقرار الأقاليم الجنوبية، يتعزز موقع المغرب كقوة اقتصادية صاعدة في إفريقيا، وكشريك موثوق للمجتمع الدولي في تحقيق الأمن والتنمية المستدامة.
ويبقى السؤال مفتوحًا: هل ستنخرط الجزائر في هذا البعد الاستراتيجي للتحرر التنموي في شمال إفريقيا، وبناء قطب مغاربي–إفريقي قوي يدافع عن مصالح القارة؟ أم ستظل أسيرة رؤى ضيقة تهدر على المنطقة سنوات من النمو والازدهار؟
هنيئًا للمغرب بهذا الإنجاز التاريخي، فهو خطوة نحو تحرر تنموي إفريقي في قارة تمتلك موقعًا استراتيجيًا في التحول الاقتصادي العالمي والنظام الدولي القادم.
 
عائشة العلوي، أستاذة جامعية خبيرة في الاقتصاد