في حدود المنهج العلمي التجريبي، لا يمكن الحديث عن إثبات وجود خالق الكون ولا عن نفيه، لأن العلم – بحكم تعريفه ووظيفته – يشتغل داخل الكون لا خارجه، وينصرف إلى دراسة الظواهر من حيث انتظامها وقوانينها وآليات اشتغالها، لا من حيث أصل الوجود ولا علّته الأولى. فالعلم الحديث، منذ تشكّله المنهجي مع الثورة العلمية، حصر نفسه في سؤال “كيف؟” لا في سؤال “لماذا؟”، وفي الوصف والتفسير السببي للظواهر، لا في البحث عن الغاية النهائية أو المعنى الكلي للوجود. ومن ثم فإن إدخال سؤال الله أو خالق الكون في المختبر، أو المطالبة بإثباته أو نفيه وفق معايير الملاحظة والقياس والتجربة، هو خلط منهجي بين مجالات معرفية مختلفة، وليس انتصارًا للعلم كما يُتوهم .
المناظرات التي تُجرى بين المؤمنين والملحدين تحت شعار “الحسم العلمي لمسألة وجود الله” تنتمي، في أغلبها، إلى مجال الجدل الأيديولوجي لا إلى البحث العلمي الرصين . فهي تنطلق من افتراض خاطئ، مفاده أن سؤال الله سؤال علمي، في حين أنه سؤال عقلي وفلسفي ووجودي بالدرجة الأولى . فالعلم التجريبي يقوم على جملة من الشروط المعروفة: الملاحظة الحسية، والقياس الكمي، والتجربة القابلة للتكرار، وصياغة الفرضيات، ثم اختبارها وفق معيار القابلية للتفنيد . وهذه الشروط تفترض بالضرورة أن موضوع البحث كائن داخل الطبيعة، خاضع لقوانينها، وقابل لأن يُلاحظ ويُقاس ويُجرَّب . أما الحديث عن وجود متجاوز للطبيعة، أي غير خاضع لقوانينها ولا محكوم بإحداثيات الزمان والمكان، فهو خارج بطبيعته عن نطاق الأدوات العلمية .
من هنا، فإن مطالبة الملحد بـ “دليل علمي تجريبي على وجود الله” تشبه من حيث المنهج مطالبة بقياس العدالة بالمتر، أو وزن الحرية بالكيلوغرام. الإشكال ليس في غياب الدليل، بل في خطأ الأداة المستعملة . فكما أن القيم الأخلاقية والمعاني الإنسانية لا تُختزل في معادلات فيزيائية، كذلك مسألة وجود الله لا تُختزل في تجربة مخبرية . وفي المقابل، فإن المؤمن الذي يدّعي أن الفيزياء أو الكوسمولوجيا “تثبت” وجود الله مباشرة، يقع في الخطأ نفسه، لأنه يحمّل العلم ما لا يحتمله، ويحوّل الإيمان إلى نتيجة تجريبية، في حين أن الإيمان بطبيعته ليس استنتاجًا مخبريًا ولا قانونًا فيزيائيًا .
عبر تاريخ هذه المناظرات قديما وحديثا، كثيرًا ما طغى عليها الطابع الخرافي والعبثي، خصوصًا عندما يُستعمل العلم استعمالًا إيديولوجيًا لإثبات أو نفي ما هو خارج مجاله . وتزداد خطورتها عندما تُسوَّق للجمهور على أنها “حسم علمي نهائي”، فيُختزل العلم في شعارات تبسيطية، ويُختزل الإيمان في ثغرات معرفية . فالإيمان بالله لا يقوم على “فراغ علمي” ينتظر أن يملأه التقدم العلمي، كما يزعم بعض الخطاب الإلحادي، ولا على قفزات غير منضبطة من معادلات الفيزياء إلى العقائد، كما يقع في ذلك بعض الخطاب الديني الدعوي .
العلم والإيمان لا يتنافسان لأنهما يجيبان عن نوعين مختلفين من الأسئلة. العلم يسأل: كيف يعمل الكون؟ كيف نشأت المجرات؟ ما القوانين التي تحكم المادة والطاقة؟ كيف تتطور الكائنات الحية؟ أما الإيمان فيسأل: ما معنى أن يوجد الكون أصلًا؟ لماذا هناك وجود بدلًا من العدم؟ ما القيمة والمعنى والغاية من هذا الوجود؟ هذه أسئلة لا يمكن حسمها بالميكروسكوب ولا بالتلسكوب، لكنها في الوقت نفسه ليست أسئلة عبثية أو وهمية، بل هي أسئلة لازمت الإنسان منذ بدايات وعيه بذاته وبالعالم .
ولهذا، فإن نفي وجود الله علميًا لا يقل استحالة عن إثباته علميًا . فكما لا يمكن للعلم أن يثبت وجود ما هو متجاوز للطبيعة، لا يمكنه أيضًا أن ينفيه، لأن النفي العلمي يفترض الإحاطة بالموضوع، والعلم بطبيعته معرفة جزئية ومحدودة بحدود المنهج والموضوع. وكل ادعاء “علمي” بنفي الله ليس في الحقيقة سوى موقف فلسفي ملبَّس بلباس علمي، تمامًا كما أن كل ادعاء “علمي” بإثبات الله مباشرة هو موقف إيماني ملبَّس بلغة الفيزياء .
الإيمان بالله، في صيغته العميقة، يقوم على الاستدلال العقلي والفلسفي، وعلى التجربة الإنسانية الداخلية، وعلى الإحساس بالمعنى والنظام والقصد في الوجود، لا على سدّ ثغرات الجهل العلمي . كما أنه يتحقق تاريخيًا عبر الوحي والأنبياء والرسل عليهم السلام، ثم ينتقل اجتماعيًا وثقافيًا عبر الأسرة والمحيط والمجتمع، فيتشكل كجزء من الوعي الجمعي للشعوب والقبائل والحضارات . وهذا البعد الإنساني والاجتماعي للإيمان لا يمكن اختزاله في معادلة علمية، ولا يمكن إلغاؤه بادعاء أن العلم “ألغى” الحاجة إلى الله، وفي هذا السياق عبّر الحديث النبوي عن هذا المعنى العميق في قوله صلى الله عليه وسلم، كما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء». فهذا النص لا يتحدث عن برهان تجريبي، بل عن استعداد فطري، وعن بُعد أنثروبولوجي في الإنسان يجعله منفتحًا على سؤال المعنى والتجاوز، قبل أن تصوغه المؤثرات الثقافية والاجتماعية.
وختاما، إن العلم لا يملك – ولن يملك – أدوات لإثبات وجود الله أو نفيه، لأن هذا ليس من اختصاصه أصلًا . والإيمان لا ينافس العلم ولا يعوّضه، بل يتحرك في أفق مختلف . وكل محاولة لجرّ أحدهما إلى ميدان الآخر، إما أن تفسد العلم أو تبتذل الإيمان، وغالبًا تسيء إليهما معًا. لذلك، فإن الوعي بحدود المناهج المعرفية، والتمييز بين مجالات السؤال، هو الشرط الأول لأي نقاش صادق ومسؤول حول هذه القضية الوجودية العميقة .
الصادق العثماني - أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية