نعيمة بنعبد العالي: "من أنا بدون قلادتي؟" العقل والضحك والبحث عن الهوية في حكايات الحماقة في الأدب العربي الكلاسيكي

نعيمة بنعبد العالي: "من أنا بدون قلادتي؟" العقل والضحك والبحث عن الهوية في حكايات الحماقة في الأدب العربي الكلاسيكي نعيمة بنعبد العالي

مقدمة: الضحك على حافة الفراغ

في سلسلة من الحكايات تبدو عرضية، يروي ابن الجوزي قصة رجل يدعى هبنقة. كان يحمل قلادة في عنقه ليتعرف بها على نفسه. ذات يوم سرقت منه وهو نائم في المسجد، فأخذ يتجول وهو يسأل: "من أنا؟". لم يكن قد فقد ذاكرته، ولا اسمه، ولا صوته، إنما زينة صغيرة من الودع. ورغم ذلك، فهذه الإشارة وحدها كافية: بدونها، ينهار الأنا.

هذا المشهد البسيط، شبيه بالعبث، يلخص وحده توترا خفيا يمر بكل الأدب العربي الكلاسيكي: فالهوية ليست شيئا معطى، بل هي دوما في حاجة إلى استعادة الاكتساب عبر نظرة الآخر، أو الكلمة المناسبة، أو الشيء أو القناع الذي نرتديه.

في هذا السياق، يتوقف الضحك عن كونه مجرد تسلية ليصير عرضا. فقصص الحماقة —سواء وجدت في كتاب ابن الجوزي «أخبار الحمقى والمغفلين»، أو في النوادر الشعبية، أو في الأمالي والأزاهر— لا تقتصر على السخرية من الجهل أو السذاجة. إنها تمثل أزمة كامنة للعقل بالمعنى الأوسع: لا القدرة على التفكير المنطقي فحسب، بل القدرة على الاثبات في العالم، والاعتراف بالذات، والتعامل مع اللغة دون ضياع.

كلمة "عقل" تضم معاني متعددة، هو المعيار الذي يميز الإنسان عن الحيوان، والمؤمن عن الملحد، والعالم عن الدجال. ولكن، ماذا يحدث حين يصير هذا العقل نفسه موضع شك— لا عند المجانين، بل عند أولئك الذين يعتقدون أنهم يملكونه؟


تقترح هذه المقالة قراءة قصص الحماقة، كتجارب فكرية مصغرة، حيث تفتح الحماقة الظاهرة ثغرة في النظام الرمزي. ومن خلال تحليل يركز على ابن الجوزي، ثم يتوسع ليشمل أنماطا متكررة في الأدب العربي، سنبين كيف أصبح الضحك هو المجال الذي تظهر فيه الهوية غير مستقرة، معتمدة على إشارات خارجية. ونتساءل أيضا عن وظيفة هذه النصوص المتناقضة: إذا كانت تدعي تصحيح الأخلاق، فهي تترك غالبا سؤالا بلا جواب: ماذا لو كانت الحماقة الحقيقية هي الاعتقاد أن العقل ملكية راسخة؟

فوراء كل حكاية— حيث يبحث رجل عن عقله المفقود، أو يخترع آخر قريبا له ليكتسب وجودا، أو يتشاجر ساذجان على "وسط الجهة اليمنى"— يخط في الأفق خطاب أنثروبولوجي خفي: فالذات العربية الكلاسيكية لم تكن «أنا» مستقلة وسيدة، بل كانت كيانا هشا، معلقا بين اللغة والنظر، وبين المعيار والانحراف. لذلك، لم يكن الضحك سخرية، بل اعترافا مؤلما بهذه الهشاشة المشتركة.
وربما لهذا السبب يتردد صدى هذه النصوص، التي كتبت قبل ثمانية قرون، اليوم بإلحاح غريب: في عالم نبنى فيه هويتنا ونفككها مع كل نقرة، حيث صارت «قلاداتنا» رقمية،
هل يبقى الشك كما هو، و هل يبقى سؤال هبنقة  بهذه الراهنية: من أنا؟

 

1. العقل كمعيار اجتماعي — و كتوهم

في الحضارة الإسلامية الكلاسيكية، لم يكن العقل مجرد قدرة إدراكية، لكن مجاله يشمل التمييز والضبط الذاتي والقدرة الأخلاقية على التفريق بين الخير والشر.   فهو هبة إلهية، ومسؤولية أخلاقية، وفوق ذلك، علامة اجتماعية.

منذ القرون الأولى للإسلام، صار العقل أحد أركان علم الكلام المعتزلي، الذي جعله الشرط الأساس لمسؤولية الإنسان أمام الله تعالى. حتى عند التقليديين، مثل الحنابلة الذين يعد ابن الجوزي أحد أبرزهم، بقي العقل ضامنا للتقوى.

غير أنه في هذا السياق بالذات، تظهر بقوة تكاد تكون هوسية، قصص أولئك الذين يفترض أنهم يفتقرون إليه. إنهم النقطة المقابلة الضرورية لثقافة تضع العقل في مكان أسمى.
عند ابن الجوزي، يكون هذا التوتر حادا بشكل خاص. فهو نفسه واعظ وفقيه وأخلاقي، عاش في بغداد في القرن الثاني عشر، في عالم كانت فيه الألقاب العلمية تنتشر بسهولة،
ويكثر فيه العلماء المزيفون. لذلك، لم يكن «أخبار الحمقى والمغفلين» مجرد تسلية: بل كان رسالة أخلاقية مقنعة في معرض نماذج هزلية. كل حكاية فيه تعمل كمسرح صغير: الفقيه الذي يخطئ في اقتباس القرآن، والقاضي الذي يخدعه لص، والتاجر الذي يختلق كذبة عن بضاعته— جميعهم يجسدون الخوف نفسه: تكاثر حاملي العقل المزيفين.

لكن ما يجعل هذه الحكايات مربكة للغاية، هو أنها لا تقتصر على الإدانة. بل تعرض هشاشة المعيار ذاته. لأنه إذا كان بالإمكان تقليد العقل إلى هذه الدرجة، فإن العقل يتوقف عن كونه جوهرا ليتحول إلى أداء. وهنا يبدأ الوهم: ليس وهم الأحمق، بل خيال كل هوية اجتماعية مبنية على اللغة. العالم الذي يتعثر بسبب كلمة، أو يناقض نفسه، أو ينسى اسمه، يصير هبنقة— رجل بلا قلادة،"َ أنا" بلا مرساة.

هكذا، لا تظهر قصص الحماقة ما هو الجنون، بل ما قد يصير إليه العقل حين يتحول إلى قناع اجتماعي. ولهذا السبب فإن الضحك الذي تثيره ليس نقيا: بل هو دائما مشيب بالقلق. لأن القارئ المثقف الذي يضحك على الفقيه الجاهل يعرف، في أعماقه، أنه يمكن له أيضا، يوما ما، أن يخلط بين "الحَمد" و "الحِمد"— ليرمى في جانب الحمقى.

في هذا الفضاء غير المستقر، بين المعيار والانحراف، وبين الكينونة والمظهر، تبدأ رحلة البحث عن الهوية— ليس كتأكيد للأنا، بل كصراع ضد الذوبان في لغة الآخر.

 

2. الجسد، الشيء، الإشارة: حين تنتقل الهوية إلى خارج الذات

 

في عالم قصص الحماقة، لا يكون الجسد أبدا مكانا مستقرا للهوية. على العكس من ذلك، فإن الهوية تنتقل، و تغير مكانها، وتتحول إلى الخارج في أشياء وأسماء وإشارات اجتماعية— لدرجة أنه عندما تختفي هذه الدعامات، ينهار الأنا.

قصة هبنقة، التي رواها ابن الجوزي، هي أبلغ مثال على ذلك: "كان لا يعرف نفسه إلا بقلادة في عنقه، فلما أضاع القلادة، أخذ يسأل: من أنا؟".

 هذا المشهد يلخص منطقا أنثروبولوجيا عميقا: الهوية ليست جوهرا داخليا، بل هي نتيجة اعتراف اجتماعي يتم عبر الإشارة... الضحك الذي تثيره هذه الحكاية ملون إذن بكآبة غريبة: فهو يكشف إلى أي درجة يرتكز وجودنا الاجتماعي على دعامات هشة، قابلة للسقوط دائما.
هذا الاعتماد على الإشارة الخارجية نجده في أماكن أخرى في مجموعة ابن الجوزي. العالم الذي ينسى اسمه، الرجل الذي لا يعرف كلمة «لص»، التاجر الذي يكذب على بضاعته— جميعهم يخونون ليس حماقة داخلية، بل قطيعة في سلسلة الإشارة الاجتماعية. كلماتهم لم تعد تتوافق مع توقعات العالم.

غير أن هذا المنطق يعرف تحويلا دقيقا في المتغيرات المعاصرة. لنفترض هذه القصة المصغرة، المستوحاة من روح ابن الجوزي لكنها تتوجه نحو مأزقنا الخاص:

دخل رجل المقهى فقال: ليس أنا من دخل، بل هو ابن عمي علي! وكان الناس يعلمون أن لا ابن عم له. ثم قال: أما أنا، فأنا ابن عمه محمد.

هنا، لم تعد الهوية تفقد— بل تتكاثر. بينما يغرق هبنقة في فراغ اللا-اسم، فإن هذا الرجل يختلق قرابات وهمية ليكتسب وجودا. لا يسعى إلى أن يعترف به كما هو، بل إلى أن يذوب في سلسلة من الأسماء التخيلية. هناك أسماء بلا أجساد، وروابط بلا جذور. الضحك هنا لم يعد ضحك الفقدان، بل ضحك التكاثر الفارغ— عبثية لطيفة تتساءل عن عصرنا نحن، حيث تبنى الهوية غالبا عبر الأفاتار والأسماء المستعارة والملفات الرقمية.

بين هذين المشهدين— أحدهما كلاسيكي، والآخر معاصر— نرسم تطورا: من النقص إلى الفائض. في الماضي، كان المرء يفقد ذاته لعدم وجود إشارة. اليوم، يغرق المرء تحت وطأة الإشارات، دون أن ينجح في التعرف على ذاته فيها. وفي الحالتين، يبقى السؤال نفسه، ملحا، عالميا: من أنا؟

لكن إذا كان الشيء والاسم دعامتين غير مستقرتين، فماذا عن اللغة نفسها— هذا المكان الأول حيث يحاول الأنا قول ذاته؟ إلى هذا السؤال تقودنا القصص حيث تنشأ الحماقة ليس من نقص، بل من فائض في المنطق، من تشويه في التفكير يكشف اعتباطية العالم المشترك ذاته.

 

3. اللغة: مكان الضحك، مكان الضياع

إذا كان الجسد والشيء دعامتين هشتين، فإن اللغة هي في نفس الوقت المكان الذي تحاول فيه الهوية أن تثبت نفسها— والمكان الذي تتهرب فيه بأكثر الطرق قسوة.
في قصص الحماقة في الأدب العربي الكلاسيكي، ليس الجهل الخام هو ما يثير الضحك بقدر ما هو انهيار الجماعة اللغوية: اللحظة التي تنزلق فيها كلمة، أو صوت، أو تركيب نحوي خارج معناها المشترك، وتترك المتحدث معلقا في فراغ دلالي. الضحك، إذن، ليس مجرد سخرية؛ بل هو عرض لقطيعة— بين الذات والرمز الذي يفترض أن يحملها.

تأخذ هذه القطيعة عدة أشكال. أكثرها كلاسيكية هو الخطأ المعجمي أو النحوي الذي يحول المقدس إلى هزلي: الفقيه الذي، وهو يريد قول "الحَمد لله"، ينطق "الحِمد لله" (أي اللحم النيء). هنا، ينشأ الضحك من انزياح مجهري— حركة— يسقط الخطاب من مستوى التقوى إلى مستوى العبث الجسدي. لكن هذه ليست الطريقة الوحيدة. هناك طريقة أخرى، أكثر دقة، وأكثر إثارة للقلق: تلك التي لا يخطئ فيها الأحمق، بل يطبق المنطق إلى درجة الإفراط، لدرجة أنه يذيب المعنى المشترك. هنا يصير الضحك فلسفيا.

لنفترض هذه القصة المصغرة، كصدى للنوادر الكلاسيكية:

     حكي عن مغفلين أنهما كانا يمشيان في طريق، فقال أحدهما لصاحبه: تنح عني فإني أريد أن     

أمشي في الوسط! فقال له الآخر: أفي وسط اليمين تريد أم في وسط الشمال؟

للوهلة الأولى، يبدو العبث واضحا: الرجل الثاني يقسم ما لا تمكن قسمته. لكن في الواقع، هو لا يفعل سوى دفع منطق ضمني إلى أقصى حد: إذا كان "الوسط" يفترض ثنائية (يمين/يسار)، إذن يمكن تقسيم كل نصف بدوره، وهكذا إلى ما لا نهاية. لم تعد هذه حماقة— بل هي مأزق للفضاء المشترك. الطريق، الذي كان ذات يوم مكانا للقاء، يصير فضاء كسريا، حيث لا يمكن لأي نقطة أن تسمى "مركزية". الضحك هنا يكشف أن المعنى المشترك يقوم على اتفاقيات يمكن للعقل دائما أن يحلها.

وهذا التوتر بالذات— بين الاتفاقية والمنطق، وبين الاستخدام والتحليل— هو ما يجعل هذه القصص مثمرة للغاية. الأحمق الكلاسيكي هو من يجهل القواعد. لكن الأحمق الحديث هو من يعرفها جيدا، لدرجة أنه لم يعد قادرا على العيش في إطارها. تظهر هذه الشخصية بوضوح في متغير آخر، يرتكز على البحث عن العقل نفسه:

...فبينما هو يطلب، لقي رجلا آخر فحكى له قصته. فقال له الرجل: لا تبحث! إن كنت ناقص عقل حقا، لما خرجت تطلبه. أفعل مثلي: إني لا أزال أتخبط بين الكلمات والأشياء، فلا أدري: أالكلمة هي الشيء، أم الشيء هو الكلمة؟

هنا، الالتباس لم يعد بين كلمتين، بل بين الدال والمدلول. هذا الاستفهام معبر عنه بلغة شبه ساذجة— مما يجعله أكثر إثارة للقلق. لأنه يقترح أن أزمة اللغة ليست حكرا على السيميائيين، بل تطارد كل متحدث عادي بمجرد أن يتساءل عما يقوله. هذا سؤال يشكك في قدرة الكلمة نفسها على التسمية. ويرسم خطا مستمرا: الأنا لا تستطيع قول ذاتها إلا باللغة، لكن اللغة، بقولها ذاتها، تذيبها.
لهذا السبب، فإن الضحك، في هذه القصص، ليس أبدا
بريئا. إنه دائما مسكون بشيء من الشك— الشك الذي ينتاب كل ذات تدرك أنه يمكنها أن تفقد أقدامها في نسيج الكلمات نفسها التي تحملها.

 

4. الضحك كعتبة: بين الإذلال والكشف

حتى الآن، رأينا كيف تمثل قصص الحماقة هوية غير مستقرة، معتمدة على الشيء والاسم واللغة. ولكن يجب أن نتساءل أيضا عن وظيفة الضحك نفسه الذي يجري عبر هذه الحكايات. لأن هذا الضحك ليس أحادي المعنى: فهو يتأرجح باستمرار بين قطبين متناقضين ظاهريا— الإذلال التصحيحي والاعتراف المتواطئ.

عند ابن الجوزي، يكون هذا التوتر حيا بشكل خاص. من جهة، هو يكتب لتصحيح الأخلاق، وللتذكير بأن العقل مسؤولية يجب تحملها بتواضع. لكن من جهة أخرى، النص نفسه يقوض هذه النية التربوية. لأنه لكي يضحك القارئ، يجب أن يفهم الحماقة— أن يرى فيها انعكاسا محتملا لذاته. وهنا يتوقف الضحك عن كونه خارجيا ليصبح داخليا. الضحك على الحالة المشتركة التي تجعل كل ذات معرضة للتعثر في كلمة، أو فقدان قلادة، أو التساؤل عما إذا كان الوسط في اليمين أم في اليسار.

هذه الازدواجية تجعل من الضحك عتبة، حيث تتشوش الحدود بين الحكيم والمجنون. لنفترض، على سبيل المثال، شخصية العالم الذي ينسى اسمه. ابن الجوزي يقدمه كحالة من الغباء الشديد. ولكن ألا يكشف هذا حقيقة يجهلها الحكيم المفرط في ثقته؟ الهوية ليست مستقرة أبدا؛ يجب إعادة تأكيدها في كل لحظة. من ينساها يكون مضحكا— لكن من يعتقد أنه لا يمكنه نسيانها أبدا هو ربما أكثر عمى.
في ذلك، تتجاوز هذه القصص إطار الهجاء الأخلاقي البسيط. إنها تفتح ثغرة في النظام الرمزي— ليس للإطاحة به، بل لإظهار طبقاته. ولهذا السبب، في التقليد العربي الكلاسيكي، يحتل المجنون
أو المغفل، أو الأحمق، أو البسيط أو أي "بهلول" أحيانا مكانة غامضة: يقولون ما لا يستطيع الحكيم قوله. كلمتهم، المطلقة من قيود الأدب، أو البلاغة العلمية، أو الاستراتيجية الاجتماعية، يمكنها أن تصل إلى شكل من حقيقة عارية— ليست عقلانية، بل وجودية.

هكذا، الضحك الذي تثيره هذه القصص ليس أبدا نقيا. إنه مزدوج: يسخر، لكنه يرتجف. يدين، لكنه يعترف أنه، في النهاية، عرض لثقافة واعية بهشاشة أسسها نفسها. وربما هذا ما يفسر استمرار هذه النصوص عبر القرون: إنها لا تطمئننا على عقلنا— بل تذكرنا أن الجنون ليس ببعيد أبدا عن الخطاب الأكثر علمية.

 

خاتمة: أنثروبولوجيا الذات غير المستقرة

قصص الحماقة في الأدب العربي الكلاسيكي هي، بطريقتها الرصينة، وغالبا الصامتة، تجارب فكرية عن حالة الذات. عبر شخصيات العالم الجاهل، والبدوي الساذج، والتاجر الكذاب، ترسم هذه النصوص خطابا أنثروبولوجيا خفيا: الهوية لا تظهر فيها أبدا كجوهر ثابت، «أنا» مستقل وشفاف لذاته. إنها دوما موسطة، هشة، معلقة على إشارات خارجية— اسم، شيء، كلمة منقولة، حركة صحيحة.
الضحك، في هذا السياق، ليس رفاهية. إنه العرض الضروري لثقافة ترفع العقل أخلاقيا واجتماعيا،
وتدرك، في الوقت نفسه حدوده. لأنه إذا كان بالإمكان تقليد العقل، إذا كانت اللغة يمكن أن تخون، إذا كان الجسد يمكن إنكاره لصالح مثيل وهمي، فإن العقل نفسه يصير خيالا يجب الحفاظ عليه— ليس ملكية، بل أداء. وهنا بالذات ينقلب الضحك: من تصحيحي، يصير متواطئا. لم يعد يضحك فقط على الأحمق، بل على الحالة المشتركة لكل ذات ناطقة، محكوم عليها أن تبنى في نظر الآخرين، في الوسط بين الكلمة والشيء.

اليوم أيضا، قلاداتنا تغيرت أشكالها— أصبحت رقمية، خوارزمية، ذات ملفات شخصية— لكن الشك بقي مطابقا. وطالما تجرأت أصوات على الضحك من هشاشتها الخاصة، سيظل الأدب العربي ما كان دائما: ليس نصبا للماضي، بل مرآة موجهة للحاضر، حيث يمكن لكل قارئ أن يرى نفسه في المجنون الذي يبحث عن ذاته المفقودة... وبفعله ذلك، أن يجدها.